خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

هكذا وصلت توكل كرمان

حين أعلنت جماعة «الإخوان المسلمين» في قطر حل نفسها عام 1999 مر الخبر مرور الكرام. معظم الناظرين إلى رقعة الشطرنج لم يفهموا معنى هذا القرار. لكنه دشن لمرحلة جديدة، والتفافة أجزم أن الأكثرية منّا لم يدركوها حتى الآن.
بدايةً، حل تنظيم «الإخوان»، بالترجمة الإسلامية الحركية، يعني أن الجماعة صار لديها «أمير ممكن». حين نقول «أمير ممكن» تستدعي أذهاننا الصورة الإعلانية التي زرعتها فينا دعاية فلول العثمانيين عن رجل تقيٍّ ورع، يحجّ عاماً ويجاهد عاماً، أحياناً يحدِّث السحاب، وأحياناً يرسل رسائل التهديد إلى قادة الفرنجة.
صورة إعلانية أدت غرضها سابقاً بترويج فكرة «الخلافة الإسلامية». وأدت غرضها لاحقاً بالتعمية على الوظيفة الأساسية التي تطلبها الجماعة المعاصرة من حاكم في دولة. أن يعاونها في غرضها الذي قامت من أجله: إعادة سيطرة الروم المسلمين (العثمانيين) على حوض البحر المتوسط والجزيرة العربية. لا أكثر ولا أقل. وبالفعل. الشيخ خليفة بن حمد دشن مع جماعة فلول العثمانيين ما صرنا الآن نعرفه بالتحالف العثماني. ومعها، بدأت صورة الإسلامجي الجديد. وخطة الإسلامجي الجديد. الصورة والخطة التي لا تزال تخدعنا.
كان الرجل طموحاً، يريد أن يحل محل صدام حسين في تنصيب نفسه قائداً للجماهير تحت شعار وحدوي. يملك أموالاً. ويملك لقباً. لكنه لا يملك شعباً بالحجم الذي يُرضي هذا الطموح أو يبرره. جماعة فلول العثمانيين يملكون شعباً. ويملكون قدرات دعائية. بل وملكوا خلال العقود السابقة عقول قطريين من خلال سيطرتهم على جهاز التعليم. ومكّنتهم المساجد ووسائل الإعلام في دولنا من عقول أجيال من المواطنين. يجب أن نعترف بذلك ونقرّ به.
في عام 2002، اكتمل النسق، بصعود رجب طيب إردوغان إلى الحكم في إسطنبول. صار لدى فلول العثمانيين قدم في حلف الناتو. صاروا أصحاب عمود في النظام العالمي القائم. ورثوا وظيفة تركيا فيه منذ الحرب العالمية الثانية. مواجهة التمدد الروسي في الشرق الأوسط. الوظيفة التي نفّذتها تركيا من خلال عضويتها في حلف بغداد، ثم عضويتها في الحلف الأهم عالمياً: حلف الناتو. الوظيفة التي تطورت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتحوُّل الحدود الساخنة بين الغرب والشرق من حدود الحرب الباردة، إلى حدود التَّماس الإسلامي المسيحي.
طوَّرت تركيا وظيفتها، ولكن بثمن. الثمن هو قيادة ما يسميه إردوغان الإرث العثماني. الفارق أن القيادة لن تكون بالاحتلال المباشر، بل بتنصيب أنظمة تدين له بالولاء.
توافق هذا مع ترتيب استراتيجي عالمي، ضلعه الآخر هو إطلاق يد إيران إلى الدرجة الكافية لكي تشغل الجزيرة العربية.
نكتفي بهذا القدر، لنعود إلى ما يهمنا. أن الخصم الجديد، وقد حل نفسه، إلا أنه بقي في أذهان كثير منّا على صورته القديمة. الصورة المحلية التقليدية خرّيجة الزوايا، التي يستخدمونها لتشاغلنا وتضيع أوقاتنا، بينما يمدون هم النفوذ في جماعات النسوية العالمية، ولوبيات المثليين جنسياً، والكونغرس (إلهان عمر). التحالف العثماني الجديد صار حاضراً في جائزة نوبل. صار مسيطراً على الأقسام العربية في الإذاعات العالمية، ومنها صار الصوت «المفسر» للشرق الأوسط في الهيئات الإعلامية الأجنبية. حتى الإنتاج الفني، صاروا حلقة الوصل مع «نتفليكس».
نحن هنا نتعارك مع فتاوى دينية تاريخية. وهم هناك، يستخدمون الأدوات العصرية للالتفاف علينا، وتنصيب أنفسهم قيّمين على المنطقة. والنتيجة أننا صرنا نسهم في تعميق الخدعة.
سيقول لك أحدهم: «إني أعرف فلاناً ليس من الإخوان المسلمين». نعم. هو من التحالف العثماني. «إني أعرف فلانة، ليست حتى محجبة، ليست من الإخوان المسلمين». نعم. هي من التحالف العثماني. «إني أعرف فلاناً، ألتقي معه في الحانة في باريس في الويك إند». نعم. هذا صحيح. هذا هو التحالف العثماني. هذا هو الخصم الجديد الذي نواجهه.
صديقك القديم، يعرّف نفسه بأنه كاتب يساري، أو مستقلّ، أو حتى «كاره للإخوان». الآن يناصبك العداء بلا سبب مفهوم. لا صباح الخير، ولا لايك على بوست، ولا حتى مجاملة عائلية. يتصيد لك التعليقات السلبية ويتحدث إليك بغلٍّ غير مفهوم، ويتعمد أن يحط من قدرك. في نفس الوقت يبشّ في وجه أعوان إسطنبول عَياناً بياناً.
صديقك هذا يفهم اللعبة. لقد عرف أن التحالف العثماني صار البوابة إلى عالم أوسع من المنح الأوروبية والمؤتمرات والنشر والإنتاج الفني.
فهم أن الحد الأدنى، لكي لا يطردوه من دائرة المنافع، أن يكسر دائرة انتشارك وانتشار فكرة مناصرة الدولة الوطنية. وأن يحيطك دائماً بالشبهات وإساءة الصيت. هذا أضعف الإيمان في عالم السوشيال ميديا الذي تُحمل فيه الأفكار على راحات اللايك والريتويت.
على الناحية الأخرى، ببشاشته مع طابور إسطنبول الخامس، يخفف من وطء جريمتهم، ويحوّلها إلى «خلاف في وجهات النظر» لا يُفسد للود قضية. يحوّلهم إلى وجوه مألوفة مقبولة.
بتكرار هذه العملية يصير الطابور الخامس هو الأكثر شهرة. بالتعبير الحديث، هم الإنفلونسرز الذين تختارهم الجهات الأجنبية ممثلين عن الشرق الأوسط ومتحدثين باسمه. يكرر أصدقاؤك «اللي مش إخوان» على السوشيال ميديا ما فعلوه حين أوصلوا محمد مرسي إلى رئاسة مصر. هكذا أوصلوا إلهان عمر إلى الكونغرس. وهكذا أوصلوا توكل كرمان إلى هيئة الإشراف على «فيسبوك».