خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

أبيض وبيض

من الأكلات الشعبية الرائجة في العراق أكلة أبيض وبيض. وهي البيضة والسلطة الملفوفة برغيف خبز. والكلمة تفضح هذا الهوس العربي بلون البياض. لا أدري إن كنا قد سمينا بيضة الدجاجة هذا الاسم تيمناً باللون الأبيض أم أننا عشقنا بيضة الدجاجة للونها الأبيض. وكثيراً ما انعكس ذلك في شعرنا وأدبنا. وإذا رجعنا عدة قرون إلى الوراء لوجدنا امرأ القيس حتى في ذلك الزمن البعيد، يعبر في معلقته الشهيرة عن هذا العشق للون الأبيض حيث يقول في وصف حبيبته، بطلة القصيدة:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة
ترائبها مصقولة كالسجنجل
ولكن هذا الهيام باللون الأبيض كان شائعاً في عموم الشرق الأوسط وأوروبا. بلغ هذا الهيام بهذا اللون حداً خرافياً في القرن الثامن عشر. المعروف أن آيرلندا مشهورة ببياض بشرة بناتها وأبنائها. وكانت الفتاة الآيرلندية تعبر البحر وتنتقل إلى إنجلترا وتستعرض بشرتها البيضاء، بالحلال أو الحرام. وكل ذلك رغم أن الإنجليزيات أيضاً كن بيضاوات البشرة، ككل نساء شمال أوروبا، ولكنهن كن يعتقدن أن الآيرلنديات أكثر بياضا منهن.
لاحظت الممثلة الآيرلندية ماريا غرانت في القرن الثامن عشر أن الجمهور يأتون لمشاهدتها لا عشقاً بالمسرحية بل عشق ببشرتها البيضاء. ما إن فطنت لذلك حتى هاجرت إلى بريطانيا. وراحت تعمل في مسارحها. راح القوم يتقاطرون إلى أي مسرحية تمثل فيها. وعندما كانت تنتهي من دورها، تخرج فتجد الناس يتزاحمون على الأرصفة ليتفرجوا عليها. بلغت شعبيتها أن أحد كبار اللوردات الإنجليز وقع في حبها وتزوجها.
كانت تعرف أن سر افتتان القوم بها كان يعود لبياض بشرتها. فراحت تزيد في بياض وجهها بدلك وجهها بالبودرة الناصعة البياض. وكانت من مساحيق الرصاص الرائجة. وهنا كانت مأساتها فكانت البودرة تتفاعل مع عرق الوجه وتخرج مادة حمضية تحفر في البشرة. بعد أشهر قليلة نشأت عن ذلك حفر قبيحة في وجهها. راحت ماريا غرانت تعالج الداء بمزيد من مساحيق البودرة حتى تحول الموضوع إلى حالة مرضية أودت بحياتها. فكانت أول ضحية لهوس البياض.
أما سكان البندقية (فينيسيا) في إيطاليا فكانوا أكثر تعقلاً من الآيرلنديات. راحت المرأة الفينيسية تغطي بشرتها السمراء وتضع قناعاً أبيض على وجهها. الإيطاليات معرضات للسمرة بسبب قوة أشعة الشمس عندهن. فبادرن إلى استعمال المظلات الشمسية ليتقين أشعة الشمس. وشاعت عندئذ موضة الشمسيات.
هذا الهوس بالبياض موضوع طبقي. فالفلاحات اللواتي يقضين النهار يكدحن في الحقل يتعرضن للشمس فتسمر وجوههن. أما بنات الذوات اللواتي يقضين النهار داخل البيت فلا يتعرضن للشمس فتبقى بشرتهن بيضاء. السمرة دليل على الفقر والكدح في حين أن البياض دليل على أرستقراطية البنت. هذا سر الهوس بالبياض. ولكن الآية انقلبت الآن. فالبنات الغنيات أخذن يقضين أيامهن على البلاجات يستمتعن بالشمس فتسمر أجسامهن في حين أن الكادحات يقضين نهارهن في المعامل ولا يملكن الفلوس الكافية للتبرج على البلاجات. هكذا أصبحت السمرة البرونزية الآن دليل الترف وأصبح البياض دليل الفقر وخراب البيت. ولله في خلقه شؤون.