جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

قوارب عدة وبحر هائج

في خضم الارتباك والرعب الناجم عن تفشي الوباء الفيروسي، يلاحظ المتابعُ الراصدُ حدوثَ اختلالٍ في التوازن النفسي للناس، وتحوّل المصابين والضحايا من بشر من لحم ودم وأحلام إلى أرقام في إحصائيات يومية، وإلى خطوط متعرجة، صعوداً وهبوطاً، بألوان مختلفة، في رسوم بيانية صادرة عن أجهزة تكنوقراطية رسمية، مكرَّسة لمتابعة تطورات الموقف الوبائي وتحولاته أولاً فأول. هذه العملية المتواصلة، بشكل يومي، يتمّ من خلالها، من دون وعي، نزع الصفة البشرية عن الضحايا، عبر تحويلهم إلى مجرد أعداد، لتكون وسيلة رصد لمتابعة تحركات الفيروس الوبائي، ومدى تقدمه أو انحساره. وأصبحت الإحصائيات البيانية اليومية، التي نحرص على متابعتها في المؤتمرات الصحافية للمسؤولين الحكوميين، وسيلتنا لمعرفة إن كنّا ما زلنا عرضة للإصابة بالفيروس، واحتمال الموت، أو أننا لحسن حظنا وضعنا أقدامنا على طريق السلامة، وعلى وشك أن نصل ونلج بوابة النجاة.
استحواذ هذه العلاقة، غير السوية، بأرقام الإحصائيات علينا، يعود لكوننا صرنا مهووسين بمعرفة مدى سيطرتنا على موقف لا يمكن السيطرة عليه، سواء الأفراد أو الحكومات، رغم ما تملكه الأخيرة من إمكانات.
ونحن بذلك، نكون قد موضعنا أنفسنا في موقع ملائم جداً يجعلنا نفسياً على استعداد لننسى، أو بالأحرى نتناسى، أن الأرقام ليست مجرد أعداد في رسوم بيانية وإحصائية، بل بشر افترسهم الوباء، ليس لأنهم مقصّرون في حماية أنفسهم، أو متهاونون في اتباع الإرشادات والتوجيهات الصحيّة الحكومية، لكن لأسباب أخرى، تحرص الإحصائيات البيانية الرسمية على عدم التعرض لها، ولو بالإشارة، بشكل يذكّرنا، باختلاف بسيط، بما فعله الروائي الفرنسي ألبير كامو في روايته المشهورة «الطاعون»، حين أسقط عمداً التعرض إلى السكان العرب الأصليين في وهران، المدينة التي اجتاحها الوباء.
الحقيقة التي لا يمكننا الهروب من مواجهتها هي أنه في أزمنة تفشي الأوبئة، يكون نصيب الفقراء من الموت أكبر بشكل ملحوظ من نصيب الميسورين. لكن هذه الحقيقة تتعرض للحجب بادعاء أن الأوبئة، مثل السيدة العدالة، عمياء اجتماعياً، واقتصادياً وسياسياً، ودينياً، وعُمرياً، وبالتالي، فإن الجميع متساوون أمامها، والجميع على متن مركب واحد في بحر هائج.
والصحيح، استناداً إلى أستاذة أكاديمية، اسمها سينثيا إينلوي Cynthia Enloe، هو أن القارب الواحد لا يمتلك قدمين تمكنانه من الوقوف بثبات على أرض الواقع وحقائقه. فالبحر الهائج المقصود لا يطفو فوق موجِه قاربٌ وحيد، بل قوارب عدة. منها المثقوب والمعطوب، ومنها معدوم المجاديف، ومنها المزود بمحرك قوي. ولذلك، في بريطانيا وأميركا، مثلاً، تتفادى الإحصائيات الرسمية الإشارة إلى أن أغلبية الضحايا هم من السود، وأفراد الأقليات الإثنية الفقيرة، الذين يقعون في فخّ الاختيار بين مصيرين مؤلمين؛ البقاء في البيوت والموت جوعاً، أو الخروج منها والذهاب إلى كسب أرزاقهم والموت بالوباء. وكأن الوباء جاء ليرفع الستار عمّا حرص الناس على تجاهله. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى، فإن عامل الفقر كان واحداً من ضمن عوامل أخرى ساهمت في انخفاض نسبة المصابين والضحايا من الوباء لدى حضور المقارنة بين البلدان. وعلى سبيل المثال، فإن بلدان وسط وشرق أوروبا (تشيكيا، سلوفاكيا، بولندا، النمسا) أقل من نظيراتها من بلدان أوروبا الغربية (إسبانيا، فرنسا، بريطانيا، إيطاليا) في عدد المصابين والضحايا، رغم التفاوت الملحوظ على المستويات الاقتصادية والصحية وغيرها، والتي هي لصالح الأخيرة. السبب في ذلك الاختلاف البيّن، وفقاً للتقارير الإعلامية، يعود إلى سرعة الاستجابة والتحرك من قبل السياسيين في تلك البلدان ضد الفيروس منذ البداية، وإلى حسن الحظ أيضاً. وعلى سبيل المثال، فإن كلاً من إيطاليا وبريطانيا بدأتا التعامل مع أولى إصابات الفيروس في شهر يناير (كانون الثاني)، في حين أن بولندا وسلوفاكيا وتشيكيا لم تسجل لديهما إصابات إلا في أوائل شهر مارس (آذار)، ما منح تلك الدول فرصة لتفهم حجم الضرر الذي يحدثه الفيروس والاستعداد لتفاديه، باتخاذ إجراءات سريعة، تمثلت في إغلاق حدودها، وفرض إجراءات التباعد الاجتماعي. وتعاملوا مع المسألة بجدّية لعلمهم بمحدودية إمكاناتهم المالية والطبية على مواجهة الوباء، عملاً بالمثل الذي يؤكد أن الوقاية أفضل وأقل تكلفة مالية وبشرية من التورط في المصائب التي ستحدث لو تمكن الفيروس من الانتشار. وهذا، بدوره، يعود بنا إلى حكاية القوارب والبحر الهائج، بحيث صار من الممكن لنا الإشارة إلى أن مهارة القباطنة والملاحين في القوارب غير الصالحة للملاحة، وسرعة تحرّكهم في التعامل مع الأمواج كانت بالمقارنة أفضل من نظرائهم في القوارب الحديثة المزودة بمحركات قوية. الفقر في حالة هذه البلدان كان محفزاً ودافعاً لها على العمل لتفادي الإصابة بالوباء، والتمكن من الوصول إلى بر الأمان بأقل خسائر.
الجدير بالذكر، ولحسن حظ الدول الفقيرة خصوصاً، والعالم عموماً، وعلى عكس وباء إيبولا، انتشر وباء فيروس «كورونا» في بلدان غنية، وذات موارد هائلة قادرة على التصدي له، ومقاومته. ولو حدث العكس، لا سمح الله، لكان حجم الضحايا وليس المصابين بالملايين، ولوقعت تلك البلدان في حفرة بلا نهاية.