نديم قطيش
إعلامي وكاتب سياسي لبناني، عمل مقدماً لبرنامج «دي إن إيه» اليومي الساخر الذي بُث على شاشتي «العربية» و«المستقبل». يقدم حالياً برنامج «الليلة مع نديم» على شاشة «سكاي نيوز عربية» الذي يجمع فيه بين السخرية والتعليق السياسي الجاد.
TT

خفايا مسلسل «الأسد ـ مخلوف»

لم يتوقع السوريون أن دراما رمضان هذا العام ستكون من بطولة النظام نفسه، عبر برنامج تلفزيون الواقع «الأسد - مخلوف».
للمرة الثانية على التوالي يطل رامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد، والشخص الذي يعد المعادل الاقتصادي في سوريا، في رسالة فيديو، عبر صفحته على موقع «فيسبوك».
سياقات كثيرة تم افتراضها لهذا السجال العلني، ضمن ركني المنظومة التي حكمت سوريا طوال نصف قرن، وهو التفسخ الأخطر والأعمق داخل المنظومة العلوية منذ 1970. فحتى الحالة التي مثَّلها رفعت الأسد، شقيق حافظ، كانت حالة محصورة لم يكن يملك رفعت الأسد فيها إمكانات خاصة مستقلة عن الدولة، كمثل التي يملكها رامي مخلوف اليوم.
بدأ الاضطراب العلني في علاقة مخلوف ببشار الأسد منذ عدة أشهر، على خلفية التنافس على «توزيع المغانم» بين مخلوف وزوجة الأسد أسماء، وعائلتها، تماماً كما فعلت أنيسة مخلوف، زوجة حافظ الأسد مع أسرتها التي ورث رامي مخلوف امتيازاتها. هذا جزء أكيد من حكاية الخلاف. وتطور كلاسيكي في بيوتات النفوذ والسلطة والمال حين تكثر منازلها؛ لكن ليس كل الحكاية.
تطور الاشتباك بين مخلوف وبشار مع توسل الأخير قوانين مكافحة الفساد، وسطوة الأمن، لتجريد ابن خاله من امتيازاته المالية والاقتصادية، والتي بلغت برامي مخلوف أن يستحوذ على أكثر من 60 في المائة من اقتصاد سوريا، المقدر عام 2010 بـ60 مليار دولار، في حين أن واحداً من كل سوريين اثنين يعمل لصالح شركة يملكها مخلوف!
تطالب السلطات السورية، بإيعاز من الأسد، مخلوف بأن يدفع ما يقارب 180 مليون دولار بدل تهرب ضريبي وإخفاء أرباح عن سنوات سابقة، كانت تنبغي مشاركتها مع الحكومة من اتفاق تقاسم عائدات ضمن «سيرياتل» أكبر مشغل هاتف في سوريا.
لكن أحداً لا يصدق أن انشقاقاً علنياً بهذه الخطورة سببه مائتا مليون دولار، لا بالنسبة للأسد ولا بالنسبة لمخلوف.
ما زاد من التشويق لمتابعة مسلسل «الأسد - مخلوف» تزامنه مع انتقادات روسية علنية للأسد، وتشكيك في شعبيته، وفي قدرته على الفوز في الانتخابات الرئاسية المجدولة في العام المقبل.
تتذمر روسيا من الأسد بسبب فشلها حتى الآن في دفع رئيس النظام إلى القبول بتسوية سياسية ودستورية، تلقى حداً من القبول العربي والدولي، وتتيح الانتقال إلى إعادة الإعمار، ما من شأنه تخفيف وطأة تكاليف الحرب على روسيا، وكسبها ما تيسر من عقود مهمة وحساسة ومربحة في الاقتصاد السوري مستقبلاً.
المثير في البعد الروسي (والروسي الإيراني) للحكاية، أن رامي مخلوف يملك علاقات وثيقة مع موسكو التي يقيم فيها والده محمد مخلوف، شريك حافظ الأسد والوجه الدولي لنظامه. ويتنقل عدد مختار من أفراد أسرة مخلوف منها وإليها وعبرها بجوازات سفر روسية. وإليها نقل مخلوف جزءاً من الثروة الخيالية التي تمت مراكمتها على مدى نصف قرن.
على عكس إيران التي لا مستقبل لها في سوريا خارج «الماركة الأسدية» تتمتع روسيا بمرونة أكبر في البحث عن خيارات لها للمستقبل. وقد لا تجد أنسب من اللحظة الراهنة لتثبيت مواقع قوتها وتوسعتها ولو من دون بشار. فدينامية المنطقة تغيرت بعد وباء «كوفيد- 19» لناحية الأولويات والقدرات، وإيران في أضعف حالاتها في الداخل كما في الخارج، في حين أن الأسد يجتر كل سلوكيات الفشل السياسي والإداري في التعامل مع الدولة، مستنزفاً قدرته على اللعب على التناقضات الروسية الإيرانية.
لو أن رامي مخلوف اكتفى بفيديو واحد، لكان من المنطقي اعتبار مرافعته الفيسبوكية إجراء اليائس. أما أن يطل بفيديو ثانٍ أكثر تحدياً في نبرته، معنوناً: «كن مع الله ولا تبالِ»، وألا يكون بوسع أجهزة نظام الأسد سوى اعتقال بعض الموظفين في شركاته، فهذا من علامات إفلاس هيبة النظام التي لا ريب فيها.
وما يثير الاستهجان أيضاً، أن استصراح عدد من الشخصيات السورية العامة، ضد مخلوف، سرعان ما ارتد على أجهزة الأسد، حين نفى بعض هؤلاء ما نُسب إليهم، من دون الخشية من تبعات أن تحسب مواقفهم لصالح مخلوف ضد الأسد!
أما أن يتحدث مخلوف بما تحدث به من مناطق تقع تحت سيطرة النفوذ الروسي، فهو ما من شأنه أن يبعث بالرسائل في كل اتجاه.
من يعرف الواقع النفسي للعلويين في سوريا بعد تسع سنوات من الحرب، فَهِم عبارة «جنى عمري» التي استعملها رامي مخلوف أكثر من مرة في شريطه الثاني.
كان لافتاً في إبدائه الحرص الشديد على مخاطبة الوعي العلوي بشكل غير مباشر. وحذَّر الأسد من أن التمادي في ضرب معادلة رامي مخلوف، العلوي، لصالح نخبة جديدة سنية ترعاها أسماء الأسد، يعتبر تلاعباً بتوازنات النظام ومصادر شرعيته العميقة، ومغامرة بمستقبل المنظومة التي حكمت سوريا منذ نصف قرن.
فالرجل يخاطب غريزة البقاء والرعب عند العلويين الذين يتمتع بينهم بزعامة جدية، حرص على توسعة مشروعيتها عبر «الأعمال الخيرية» وشراء الولاءات، وعلى حساب الأسد في كثير من الأحيان.
لهذه الحظوة العلوية خاصية قلما تظهر على سطح النقاش، هي قدرة مخلوف، نظرياً على الأقل، على استثمار التوتر الداخلي في نظرة العلويين إلى إيران، بسبب برامج نشر التشييع التي ترعاها إيران في أكثر من مكان في سوريا.
كثير من الأسئلة بلا أجوبة الآن: هل هناك مشروع روسي اسمه رامي مخلوف؟ هل الرجل من قماشة يراهَن عليها حتى لأدوار انتقالية؟ هل يُستخدم مخلوف للضغط على الأسد فقط، أم أبعد؟
لا جواب الآن؛ لكن الأكيد أن البحث في ما بعد الأسد، جدي أكثر من أي وقت مضى.
في مقابلة قبل أيام أجراها الزميل إبراهيم حميدي مع المبعوث الرئاسي الأميركي ومسؤول الملف السوري جيمس جيفري، في «الشرق الأوسط»، يقول جيفري: «على دائرة الشخصيات المقربة للغاية من رأس النظام (...) أن تعرف أن لا مستقبل واضحاً أمامهم إذا استمروا في دعم الأسد وتأييده. وحري بهم ممارسة الضغوط من أجل الانتقال السياسي».
خلاف مخلوف – الأسد، لا يُقرأ خارج هذا النوع من التوجهات الدولية بشأن سوريا. المائتا مليون دولار مجرد مزحة.