حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

لبنان: رهان على استدراج الفوضى

ليس الانهيار والإفلاس أسوأ ما في وضع لبنان، كذلك ليست الجائحة هي الأخطر على حياة اللبنانيين ومعيشتهم، بل الأكثر إهانة هو أداء السلطة في بلدٍ يتميز نظامه بمركزية مطلقة. انتهت اليوم (الخميس) مهلة المائة يوم على تأليف «الحكومة - الواجهة» للحكم الممسوك من التحالف الثنائي «حزب الله» و«التيار العوني»، بتبخر وعود الإنقاذ، وانكشاف العجز عن اتخاذ أي تدبير أو إجراء يشي بأنها مدركة حجم الكارثة.
الحكومة التي تم تركيبها في غرفة مظلمة، غداة ثورة شعبية صدعت جدران نظام المحاصصة الطائفي، ما حرَّم مشاركة رموزه مباشرة فيها، وإن بقيت أصابعهم تحركها في السر والعلن؛ حددت أولويتها في إعادة إنتاج نظام المحاصصة، بل إنتاج نظام اقتصادي جديد يستكمل الانقلاب الفوقي، ويكرس نمط خيارات جديداً في السياسات المالية والاقتصادية، فيُطبق الطرف الإقليمي المهيمن (النظام الإيراني) على مجمل السلطة في لبنان، من خلال إلحاق المصرف المركزي والقطاع المصرفي الذي ستُعاد هيكلته بالسيطرة الفئوية لثنائي الحكم. فذهبت السلطة من خلال رئيس الحكومة إلى خطابٍ شعبوي يشجع انزلاق البلد إلى العنف، ظناً أنها تخفي العجز عن الحد الأدنى من الدور المنوط بها، فتظهر بجلاء موقعها في خدمة منظومة طائفية متشاوفة، وبرز الدور المسند إليها كأداة في مشروع يهدد بـ«صوملة» البلد!
لم يُرفق الإعلان الرسمي عن الإفلاس لحظة العجز عن تسديد سندات الديْن بأي خطوة لمواجهة أعباء اليوم التالي، وطيلة أشهر لم يتخذ أي تدبير فتلاشت الثقة، ما سرّع من حجم الانهيار، فطار سعر صرف الدولار وتجاوز عتبة 4200 ليرة، واستمر ارتفاعه بلا كوابح، واتسع تآكل الرواتب، وارتفع غلاء السلع الغذائية إلى نحو 150 في المائة، ما بدأ يُخرج المحجورين في احتجاجات غاضبة لأنه ببساطة تراجع الخوف من الجائحة المميتة أمام رعب سعر صرف الدولار! رغم ذلك، كانت أولوية الحكم خطاباً شعبوياً، هو من ميزات أنظمة شمولية، فاتُهم حاكم البنك المركزي بالسلوك المريب في أدائه، وبالعمل ضد الليرة، وشمل الاستهداف ما يصطلح على تسميته تركة التسعينات السياسية، والمقصود الحريري وجنبلاط، لحصر المسؤولية عن الانهيار الكبير بالفريق المبعد عن جنة الحكم! ما استدرج ردود فعلٍ من العيار نفسه، استهانت برئيس الحكومة، لكنها عبّرت عن اتساع الصراع بين أجنحة الطبقة السياسية، وعن الاستقتال دفاعاً عن مصالح فئوية. حاكم المصرف المركزي رتب لتمويل موازنات حكم تابعٍ مفلس متهم بالفساد. يحدد القضاء حجم مسؤوليته عن جانب كبير من الانهيار المالي والنقدي، لكن مسؤوليته لا تحجب مسؤولية من بيدهم السلطة والقرار السياسي، من وصفتهم الثورة بشعار «كلن يعني كلن»!
الصراع بين فريقي الطبقة السياسية لم يأخذ بعين الاعتبار مصالح الناس وحقوقها، وأثبتت جلسات التشريع النيابية أن المجلس الفاقد للشرعية الشعبية هو الغطاء الحقيقي لنهج الفساد، بحيث ذهب إلى تشريع زراعة الحشيشة، وتجاهل كل الأولويات التي تحمي حياة المواطنين والحدود الدنيا لمعيشتهم ضماناً للاستقرار. بدت المحاصصة أبرز أولويات كل الطبقة السياسية، والأوضح أن الدويلة التي تملك فائض قوة تعمدت منحى الضغط الأقصى للذهاب إلى خيار سياسي يغرق البلد كي يتمكن هذا الفريق من إحكام قبضته، والأمثلة عن هذا النهج كثيرة، تبدأ بالعراق ولا تنتهي بسوريا واليمن. وتأكد لكثير من الأوساط كم هو كبير الشبه السياسي بين هذه الحكومة وأول حكومة شكلها نوري المالكي في العراق! كل ذلك يعيد إلى الأذهان استحالة أن يتخذ الموضوع الأبرز في البلد، ألا وهو مكافحة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة والمهربة، الجدية مع تجاهل عنوان استعادة السيادة.
ضمن هذا السياق عادت الاحتجاجات، مع التشديد على أن الحشود المرتقبة غداً الأول من مايو (أيار) ستعيد الأمور إلى نصابها الحقيقي، فالانقسام الحقيقي هو بين الطبقة السياسية من جهة، ومن الجهة الأخرى الساحات الشعبية، ممثلة بثورة تشرين، ليبرز على الفور منحى الحكم في الرهان على القمع لإسكات الجائعين، ما أظهر أن حجم التحديات أصبح أكبر بكثير مما كان عليه قبل الجائحة، رغم شمول الاحتجاج الشعبي شرائح جديدة تفاقمت أوضاعها الحياتية خلال مرحلة الحجْر الصحي. كما بدا أن التعقيدات تضاعفت مع السعي الحثيث من جانب طرفي الطبقة السياسية إلى إعادة إنتاج الاصطفافات الطائفية التقليدية. ودون أدنى مبالغة، فإن هذا المنحى ليس سهلاً العودة إليه، بعدما تشكلت بعد 17 تشرين حالة من الوعي الوطني تجاوزت الانقسامات السابقة، وطالت جانباً من جمهور منظومة الحكم التي تستغل الحاجات اليومية للمواطنين، كالرشوة من خلال بعض الإعاشات، من أجل إعادة تزييت آليات التأثير الطائفي.
مع عودة الاحتجاجات في الأيام الماضية، وما رافقها من غضب شعبي، برز غياب كلي للحكومة ورئيسها، واستنكاف عن المسؤولية السياسية حيال المواطنين، وفي الوقت نفسه الاستسهال في ترك الأمور للجهات الأمنية، وبعضها لم يتورع عن إعطاء أوامر بالقمع المفرط، وصولاً إلى إطلاق الرصاص الحي في ضواحي بيروت، وخصوصاً في طرابلس، وجرى وضع الجيش بوجه المحتجين الذين فقدوا كل شيء. عادت تُطرح الأسئلة لما طرابلس العاصمة الثانية تتقدم المدن الأخرى؟ وعادت بعض جهات الحكم التي استثمرت دهراً في الانقسامات والتحريض الطائفي إلى وصم طرابلس ومحيطها بأنها «بؤرة» وأنها «قندهار»، مع تجاهل كامل لاستحقاقها طيلة أشهر صفة عروس ثورة تشرين، والجواب عن التحريض وتحضير المخططات السوداء بسيط، وهو أن طرابلس تعد المدينة الأكثر فقراً على ساحل المتوسط. قبل الانهيار كانت الأرقام الرسمية، وأرقام الأمم المتحدة، تتحدث عن نسبة 57 في المائة من أسرها تعاني من حرمانٍ شديد، وأن أكثر من 80 في المائة من أهالي المناطق الشعبية ليس لديهم أي ضمان أو تأمين صحي، وأن البطالة قبل الانهيار والجائحة كانت تتجاوز نسبة الـ55 في المائة ممن هم في سن العمل! وما ينطبق على طرابلس ليس بعيداً كثيراً عن التدهور الذي لحق بكثير من المدنٍ والمناطق الأخرى!
عموماً، غدت مرفوضة بعد الحرب الأهلية، ومن عموم المواطنين، كل مظاهر العنف، وقد أثبتت ثورة تشرين يوماً تلو آخر حرصاً كبيراً على سلمية الثورة، بوصفها بقعة الضوء وسط الظلام المفروض على لبنان، ولطالما نجحت في فضح محاولات بعض السلطة الاندساس والتخريب، لكن العنف الحقيقي هو الممارس ضد الناس التي تطالب بحقوقها، فمن أي نوع هي السلطة السياسية التي تقرر زج الجيش بوجه أهله؟ ولما يتقرر رفع السلاح بوجه المواطنين العزل إلا من كرامتهم؟ وإلى متى يستمر الرهان على القمع لكسر إرادة أصحاب البطون الخاوية؟ وبأي حق يقتل مطالب بحقوقه وحقوق أقرانه بذريعة الدفاع عن زجاج مصرف، رغم قيام الكارتل المصرفي باستغلال الودائع ونهبها وتهريب الأرباح إلى الملاذات الآمنة ثم ادعاء الطهارة!
في المرحلة الصعبة العصيبة التي يمر بها لبنان تظهر عناصر قوة الناس، وهي: اتساع جغرافيا الفقر، وكسر المواطنين للانقسامات الطائفية وتجاوزها، وتقدم الرؤيا التي تؤكد أن الحل يكون بالتغيير السياسي من خارج الطبقة السياسية المتهمة بالفساد والارتهان. والإصلاح الحقيقي لا يكون إلا باستعادة دور الشارع، وفق شعار سياسي موحد، محوره الوصول إلى مرحلة انتقالية تعيد تكوين السلطة. في المقابل، سعي أكيد لتثبيت حكم الثنائية الجديدة، بمرجعية «حزب الله» من دون سواها!