زهير الحارثي
كاتب وبرلماني سعودي. كان عضواً في مجلس الشورى السعودي، وكان رئيساً للجنة الشؤون الخارجية، وقبلها كان عضواً في مجلس «هيئة حقوق الإنسان السعودية» والناطق الرسمي باسمها. حاصل على درجة الدكتوراه في فلسفة القانون من جامعة كِنت - كانتربري في بريطانيا. وهو حالياً عضو في مجلس أمناء «مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني». عمل في النيابة العامة السعودية إلى أن أصبح رئيساً لدائرة تحقيق وادعاء عام. مارس الكتابة الصحافية منذ نحو 3 عقود.
TT

تركيا إردوغان... صراع الأجنحة وتململ الشارع

يبدو أن إفرازات فيروس «كورونا» لم تقتصر على الإضرار بصحة الإنسان، وربما فقدان حياته، بل شملت وفتكت بجوانب أخرى كثيرة، منها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. سياسيًا، الفيروس كشف أنظمة وفضح أخرى إزاء كيفية فشلها في التعاطي معه، وإخفاقها في التخفيف من آثاره، لأنه لا استقرار سياسيًا من دون تنمية ونمو اقتصادي.
نظام إردوغان سقط في الامتحان، إذ تجاهلت الحكومة حدوث الأزمة، ثم تساهلت، وما لبثت أن أنكرت تفاقمها وكابرت إلى أن فضحتها الأحداث والأرقام. رئيس حزب الديمقراطية والتقدم التركي، علي باباجان، كان صريحاً عندما قال إن «ما حدث في استقالة وزير الداخلية ورفضها، والعودة عنها، أظهر بوضوح كيف تدار الأمور في تركيا، وكيف وصلت السلطة الحاكمة إلى أضعف حالاتها». كما وصفها بعضهم بأنها مسرحية هزلية ومناورة سياسية تكشف عن الصراع وعمق الخلاف والتنافس بين جناح صهر إردوغان وزير الخزانة والمالية برات البيراق، وجناح وزير الداخلية سليمان صويلو، اللذين يتنافسان في زعامة حزب «العدالة والتنمية» مستقبلاً.
السياسة التركية في السنوات الأخيرة أصبحت مزعجة، ولا تلقى رواجاً في منطقتنا، ولا في العالم، بسبب سياسات الرئيس التركي، ولا يزال التساؤل مطروحاً عما إذا كان ذلك يعني تحولاً استراتيجياً في السياسة التركية، أو أنها لحظة طارئة تنتهي برحيل من فرضها واعتمدها.
هناك تصور يثبت صحته دائماً؛ إن الحزب الحاكم في تركيا عادة ما يغلب مصلحته على مبادئ الديمقراطية، ونتذكر أن المعارضة، بزعامة الحزب الجمهوري، وصفت التعديلات الدستورية التي سبق أن دعا إليها إردوغان منذ سنوات بأنها ليست إلا انقلاباً أبيض على دستور 1982 الذي وضعه العسكر.
في مرحلة ما قبل حكم حزب «العدالة والتنمية»، لم تكن العلاقات العربية - التركية في أحسن أحوالها. كما أن اندفاعها المفرط لعضوية الاتحاد الأوروبي آنذاك ألغى كثيراً من المبادرات العربية تجاهها. الهوس التركي برغبة الانضمام للمحيط الأوروبي كان في مقدمة أولويات الحكومة التركية، ولم يعنِ لها العرب كثيراً، بل كان شعورها تجاه العرب فوقياً عنصرياً.
في بدايات فترة حكم حزب العدالة، تغيرت الأجواء وفُتحت الأبواب لأنقرة لعلاقات شراكة وتعاون، على اعتبار القواسم المشتركة، من جغرافيا واقتصاد وثقافة ودين. العرب رحبوا بالانفتاح التركي آنذاك، وتصوروا أن إردوغان سند ونصير لهم ولقضاياهم، لا سيما في مواجهة التمدد الإيراني، أو حتى الدفاع عن القضايا العربية، قبل أن يتبين لهم لاحقاً أن هذا المشروع التركي الإقليمي ما هو إلا وسيلة للسيطرة والهيمنة، وأن خطاباته دعاية رخيصة لاستمالة الشارع العربي وجذبه.
أنقرة، ومنذ سنوات، انقلبت على مبدأ تصفير المشكلات، وأصبحت تدعم الثورات، وتورطت في ملفات كثيرة. شهدنا تصعيداً تركياً غير مسبوق، خاصة بعد الخلاف القطري - الخليجي، وذلك بزراعة قاعدة عسكرية في الدوحة، وقد سبقتها اتهامات مسيئة لإردوغان ضد دولة الإمارات حول قضية «الإخوان»، رغم أنها مسألة داخلية، وتطور الأمر إلى تغريدات مليئة بتضخم الذات واستدعاء الإرث العثماني، وكذلك استعداء السعودية والتكسب سياسيًا من قضية المواطن خاشقجي، وإشاراته غير المقبولة عن المقدسات بالمملكة والتشدق بمسألة الحماية، ناهيك من قصة جزيرة سواكن في عهد الرئيس السوداني المعزول البشير، ومحاولات إردوغان لتطويق مصر من الخارج.
الزعيم التركي له مشروعه الذاتي، ويسعى لدور ونفوذ إقليمي وإعادة الخيالات العثمانية. هناك رأي داخل تركيا بين التيارات والقوى السياسة أن الحكم المطلق لإردوغان أضر بعلاقات تركيا ومصالحها واستقرارها، بدليل تراجع قاعدته الشعبية، وازدياد النقد والمعارضة وحالة من التململ في الشارع، كما هو واضح في المظاهرات والاحتجاجات، وما زاد الطين بلة هو قانون العفو العام الذي عدته المعارضة وسيلة لإردوغان للإفراج عن فئات معينة يريد إخراجها من السجون، فضلاً عن تعديلات جديدة طرحتها الحكومة للسيطرة على وسائل الإعلام كافة، مستغلة وضع «كورونا» لتضييق هامش الحريات، وتكريس نظام قمعي.
الحديث الذي يدور اليوم في تركيا هو حول من سيخلف إردوغان، ولم يعد سراً من هم اللاعبون الأساسيون. الصراع يحوم بين ثلاثة أجنحة، وهي مجموعة البجع التابعة لصهر الرئيس برات البيراق من إعلام ومصالح، ووزير الداخلية صويلو وداعموه كحزب «الحركة القومية» وتنظيم «أرجنكون» (الدولة العميقة)، ووزير العدل عبد الحميد غل الذي يحظى باهتمام إردوغان.
الزعيم التركي يعاني اليوم أكثر من أي وقت مضى دافعاً بلاده لعزلة دولية وقد خسر كثيراً من مستشاريه ومعاونيه، وساهم في خلق انقسام داخل تركيا، لا سيما بعد الحرب التي شنها على جماعة غولن، واعتقال الآلاف من الشعب التركي وقطع أرزاقهم، ناهيك من لغة التهديد مع المعارضة العلمانية، والحرب الشرسة ضد حزب العمال الكردستاني، وكذلك ملف قبرص.
جذر المشكلة لا يقتصر على الداخل فقط، بل يتصل أيضاً بسياسة إردوغان الخارجية، بدعمه لحركات الإسلام السياسي، والتدخل في الشؤون الداخلية للدول، في إطار أجندة لتعزيز نفوذ بلاده الإقليمي، وهذه سياسة لم تعد مقبولة، وكلفتها عالية في عالم اليوم.