رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

مقالةٌ في أهوال السلم في لبنان!

في 13 أبريل (نيسان) مرت الذكرى الخامسة والأربعون على نشوب الحرب الأهلية في لبنان (1975 - 1990). وبالطبع ما كان ذلك مفاجئاً، بل تصاعدت نُذُر الحرب وعلاماتُها لما يزيد على 3 أعوام، وتمثّلت في حوادث قتلٍ مختلفة، وتظاهرات مسيحية ضخمة نُصرةً للجيش اللبناني، وأُخرى إسلامية ضد الأحزاب «الانعزالية». وانهمكت سائر الأطراف في مواجهات تسليح هائلة، اعتمدت فيها «الأحزاب الوطنية» على الفلسطينيين، والأحزاب المسيحية على الشراء من الخارج. وخلال ذلك تعذّر تشكيل الحكومات مرتين وثلاثاً، وصارت شؤون الدولة تُدارُ عن بُعْد وبالواسطة، بما صار يُعرفُ من بعد بالمراسيم الجوَّالة. وكان التكتيك المعتمد للحيلولة دون الانفجار استتار الفلسطينيين بالحركة الوطنية ومطالبها، واستتار المسيحيين بالجيش الذي يحميهم، ويحمونه، إلى أن كان يوم 13 أبريل عام 1975 حيث مرت حافلةٌ (يسميها اللبنانيون قديماً بوسطة، وحديثاً باص وأوتوبيس) بحيّ عين الرمانة المسيحي، بغالبيته السكانية، تُقلُّ فلسطينيين عائدين أو ذاهبين (اختلفت الرواية) إلى أحد الاحتفالات؛ فتوقفت بسبب زحمة السير، أو أُوقفت وجرى قتل حوالي 30، هم معظم ركّاب الحافلة، من جانب مسلَّحين منظَّمين كانوا منتشرين، كما قُتل من المسلَّحين، ما يدل على أنّ بين ركّاب الحافلة مَنْ كان يحمل السلاح أيضاً. وكان الحادث المروِّع إيذاناً باندلاع النزاع المسلَّح في سائر أنحاء البلاد، وهو النزاع الذي لم يتوقف بخروج المسلحين الفلسطينيين بسبب الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982. بل خلّف 150 ألف قتيل، واستمّر لحين نجاح تدخل البعثة التي شكلها مؤتمر القمة العربية بالرباط عام 1987. واحتضان المملكة العربية السعودية لاجتماع مجلس النواب اللبناني بالطائف 1989 – 1990، الذي أوقف الصراع المسلح، وكتب دستوراً جديداً للبنان، وانتخب رئيساً جديداً، وطرد بمعاونة الجيش السوري قائد الجيش المتمرد على الطائف والدستور الجنرال ميشال عون، الذي عاد من منفاه الباريسي بعد مقتل الرئيس رفيق الحريري عام 2005، وناضل بشراسة بالتحالف مع «حزب الله» حتى صار رئيساً للجمهورية عام 2016!
ما كانت سنوات السلم الهش بين نفي الجنرال (1990)، وصيرورته رئيساً للجمهورية (2016) كلها سنوات أهوال. فرغم الضربات التخريبية الإسرائيلية خلال التسعينات، والسيطرة السورية على مقدَّرات الدولة وقراراتها، في مقابل «الأمن المستعار» الذي حقّقته؛ عرفت البلاد إعادة إعمارٍ زاهرة مدنيةً ومؤسساتٍ، وآمالاً بمستقبلٍ يخلو من مشكلات الماضي وحساسياته. فما عادت هناك قوى مسلَّحة غريبة، والوجود السوري المسلَّح مؤقت، وسلاح المقاومة انتهت وظيفته عام 2000 بالانسحاب الإسرائيلي. وفي الطائف أقيم نظام سياسي متوازن، المفروض أنه زالت معه شكاوى المسلمين من الغبن، وهواجس المسيحيين من الخوف!
القُدامى في السياسات الداخلية، وفي معرفة المحيط من السياسيين اللبنانيين والعرب، هم الذين بدأوا يُظهرون شكوكاً في المستقبل اللبناني منذ العام 2000. فبشار الأسد بدفعٍ من الحلفاء الإقليميين والأعوان الجدد في سوريا ولبنان، بدأ يضيّق الخناق على سُنّة رفيق الحريري، وعلى المسيحيين الاستقلاليين. وجميل السيد مدير الأمن العام وأحد أعوان الأسد في لبنان انصرف مع «حزب الله» وحلفائه بطريقةٍ محمومةٍ لإثبات أنّ مزارع شبعا التي ما تزال محتلّة هي أرض لبنانية، وتحتاج لسلاح «حزب الله» لتحريرها، لأنّ الجيش ضعيف، وهو الأمر الذي كرره الجنرال عون، بعد أن صار رئيساً للجمهورية، وأضاف إلى ذلك إعطاء وظيفة جديدة للحزب، إلى جانب التحرير، وهي مكافحة الإرهاب السني بالطبع في لبنان وسوريا!
وعلى أي حال، بدأ المخطط البعيد المدى ينكشف بقتل الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير (شباط) عام 2005. ولا ندري هل كان الأسد وأعوانه يتوقعون ردة الفعل العنيفة الشعبية والسياسية اللبنانية والعربية والدولية. وقد صارع الحزب للحلول محل سوريا الأسد في النفوذ السياسي والاستراتيجي، بعد أن كان قد صار التنظيم المسلَّح الوحيد إلى جانب الجيش، واستولى على إدارات جهات حساسة بداخل الجيش ومخابراته. وقد قاومت قوى «14 آذار» السيطرة السياسية والاستراتيجية بين الأعوام 2006 و2013، مارةً بعدة محطات مأساوية؛ حرب الحزب مع إسرائيل عام 2006، التي رفعت من شعبيته، ومحاصرة حكومة الرئيس السنيورة بالاعتصامات، وإقفال البرلمان عاماً ونصف عام، وتنظيم تمرد في مخيم نهر البارد الفلسطيني باسم الإسلام، صنعته المخابرات السورية، وسقط بنتيجته مئات القتلى من الجيش اللبناني وفلسطينيي المخيم، واستمرار الاغتيالات في صفوف السياسيين والمثقفين والصحافيين من 14 مارس (آذار)، وصولاً إلى احتلال بيروت بالسلاح في 7 مايو (أيار) 2008 لإسقاط حكومة الرئيس السنيورة، التي عجزوا عن إسقاطها في الهزات السابقة. وكان ذلك بداية الانكسار الذي استمرت تداعياته رغم نجاح قوى «14 آذار» في انتخابات العام 2009. إلى إسقاط حكومة سعد الحريري الأولى عام 2011. وكان آخر مظاهر رفض السيطرة على المقدرات والسياسات إعلان بعبدا، أواخر العام 2011، بشأن النأي بالنفس، الذي ما لبث «حزب الله» أن تنكر له وتدخل في سوريا، ثم حصل الاغتيالان للواء وسام الحسن والوزير محمد شطح!
عندما نقول إنّ السلم في لبنان هو عبارةٌ عن مشاهد لأهوال حقيقية في فيلمٍ طويلٍ، كانت متقطعة، ثم صارت وضعاً دائماً، فنحن لا نُبالغ. فقد بلغت الأهوال ذروتها في الإرغام على انتخاب الجنرال عون للرئاسة عام 2016 وهو ضد «الطائف» والدستور، «ومن جانب برلمان المفروض أنّ أكثريته هي التي قاومت انتخابه منذ العام 2007»! ثم في إقرار قانون للانتخابات يضمن للحزب ولعون الحصول على أكثرية في الانتخابات التي تأجلت للوصول إلى هذا الغرض مرتين! وخلال ذلك جرى الإقبال بشكلٍ منقطع النظير، ما حصل مثله في لبنان منذ العام 1945، على نهب المال العام وتبديده في وزارة الطاقة، ووزارة المالية، ووزارة الاتصالات، ووزارة الصحة، ووزارة الأشغال، والمساعدات الدولية التي أتت للاجئين السوريين، والمشروعات التي جرى تنفيذها بمقاولين محسوبين، والهندسات المالية لتربُّح السياسيين والبنوك، والحزبية والتبعية في التشكيلات القضائية والدبلوماسية، والتعيينات الإدارية، والتوظيف العشوائي في سائر المرافق، وتقسيم المؤسسات الأمنية على الطوائف. أما ترتيبات الجيش فهي مقررة منذ أيام السوريين، ومع ذلك ما قصّر باسيل في زيادة الحصة. وثبتت للحزب المسيطر عدة جهات؛ المرفأ والمطار والمعابر مع سوريا والتجارات غير المشروعة.
لقد كان تغيير الحكومة والمجيء بحسان دياب لتحقيق هدفين؛ القضاء على الانتفاضة، وسيطرة الحزب منفرداً على الحكومة من خارج الطبقة السياسية، التي صار تنفُّذُها يمر عبره أيضاً. وبسبب هذه السطوة المتفاقمة، وهذا الفساد المتفاقم حصلت الأمور الأربعة؛ إفلاس الدولة والأزمة المعيشية الساحقة، والانتفاضة، وانعدام الحيلة في مواجهة وباء «كورونا»، والانسداد الكامل في الرؤية المستقبلية. ولا هول أعظم من فقد الثقة والأمل!