أنا النفط... أنا النفط

في السبعينات من القرن الماضي جمعتني جلسة مع رجل كبير بالعمر، على «إبريق شاهي»، وأخذ يطلب مني أن أحمد الله على العيشة التي نحن فيها، ومن ضمن كلامه قال إن عمي عندما كنا صبياناً كان يطلق علينا تهكماً لقب «آل أبو ذنبين» (كناية عن العز الذي نحن فيه)، والعز الذي يقصده أننا نعيش بأمان، وأننا نأكل على الأقل وجبة واحدة في اليوم، إما عصيدة وإما جريشاً وإما تمراً وإما مضيراً وإما شعيراً.
ويمضي الرجل قائلاً: إننا كنا لا نأكل اللحم إلا في العيدين، ونحن أفضل حظاً بمراحل من عمنا الذي قال إنهم إذا أعوزتهم الحاجة وخوفاً من الهلاك أكلوا الجلود، وطحنوا نوى التمر وسفوه سفاً، ولو كان التراب قابلاً للأكل لسفّوه كذلك.
والذي دعاني اليوم لهذا الموضوع هو ما قرأته عن الحياة في أميركا سنة 1937. كان وقتها 30 في المائة من سكان أميركا لا يتمتعون بالكهرباء، وكان المزارع يستيقظ قبل الرابعة فجراً ليحلب البقرة بيديه، ويحتاج إلى ساعات النهار كله للعمل في الحقول، وقالت إحدى العجائز المسنات لكاتب الموضوع: هل ترى حدبة ظهري هذه؟! إنها لم تتقوس إلا من نقل المياه، وهل ترى الحروق على راحة كفي؟! إنها لم تحصل إلا من لذع جمرات النار عندما أضعها في المكواة، وهل ترى العروق المتورمة على ساعديّ؟! إنها لم تبرز إلا من دعك الغسيل وعصره على الحجارة، بجانب المياه الجارية في عزّ البرد والزمهرير.
أترك أميركا الآن، وأعود إلى جزيرتي العربية، لأتذكر سؤالاً سألني إياه يوماً المفكر الراحل عبد الله القصيمي، عندما قال لي: ألا يخطر على بالك، وأنت تسير في الشوارع الخليجية، وتشاهد ناطحات السحاب من كل جانب أن تسمعها، وهي تقول لك أنا النفط، أنا النفط؟! صمتّ وقتها ولم أجبه، لكن السؤال ما زال يرنّ في أذني!
على أي حال، أميركا نهضت، ولم يعد هناك كوخ واحد فيها لم تدخله الكهرباء، ودول الخليج نهضت شكلياً وموضوعياً، سواء بالنفط أم بغيره، فهذا ليس هو هدفي من كتابة هذا الموضوع. لكن هدفي هو الإنسان، سواء أكان جائعاً أم متخماً، وسواء أكان عرياناً لا تستر سوأته غير خرقة بالية، أم متدثراً ببالطو من الفرو مدموغة عليه ماركة «Chinchilla».
والله... لا أدرى ماذا أقول؟! لأول مرة يتوه مني هدف الموضوع برمته!! أرجوكم المعذرة... إذا لم أصل معكم إلى نتيجة!!