جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

«كورونا» والأنظمة الصحية العالمية

تصنيف وباء فيروس «كورونا» تحت خانة العدو، وإشهار الحرب ضده رسمياً، في عدد من عواصم العالم الغربي، لم يأتيا صدفة، أو ولدا ارتجالاً. والحرب مفردة مثيرة للرعب، وإعلانات قيام الحروب، من خلال تجارب البشرية، تساهم في خلق حالة عامة من الارتباك، وفي سرعة انتشار الخوف بين المواطنين، وبالتالي، تؤهلهم لتقبل ما تمليه عليهم حكوماتهم من تعليمات وأوامر وما تفرضه من أوضاع استثنائية، من دون ترك فرصة للرفض، أو للمعارضة، أو للتخلف عن الوقوف في الصفوف المحاربة ضد العدو؛ لأن ذلك يضع أصحابها في خانة المتخاذلين، والخونة.
إعلان الحرب ضد الفيروس، لا يعني أن الحكومات ستلجأ إلى استخدام مخزونها من الأسلحة الفتاكة، ولا أن ترسل الجيوش إلى الجبهات. لكن، عملياً، يعني أن تنفرد الحكومات بالقرارات، من دون حسيب أو رقيب، في تنفيذ الخطة ونوعية الأسلحة التي ستحارب بها العدو.
الإعلان عن قيام حرب يتضمن، أولاً، إعلان حالة طوارئ. وهذه بدورها تستدعي تعطيل المؤسسات الرقابية والتشريعية عن العمل، ومنح صلاحياتها للحكومات. وباختصار شديد تعطيل العملية الديمقراطية، ووضعها، لأجل غير مسمى، على الرفوف. ونظرة واحدة على ما يحدث في بريطانيا، منذ انتشار الفيروس، وإعلان الحرب ضده، وما قامت به الحكومة من إجراءات على أرض الواقع، من تعرض المؤسسات الديمقراطية إلى الإغلاق، إلى خمود أصوات المعارضة الرسمية والشعبية، يقدم صورة واضحة لما حدث في كثير من دول أوروبا والعالم خلال هذه الأزمة. إذ لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
هناك مشكلة كامنة في هذا الوضع الاستثنائي، قد لا تبدو واضحة في زحام ما يحدث، وتتمثل في مرحلة ما بعد القضاء على العدو. إذ، هناك احتمال أن يقاوم السياسيون فكرة تنازلهم عما صار حقاً مكتسباً لهم من صلاحيات، خلال الأزمة، والسعي لتمديد فترة سيطرتهم الكاملة على مقاليد الأمور دون رقابة ومحاسبة برلمانية أو غيرها. وهذا بدوره سيحفز ويحرّض المواطنين على التململ أولاً، ثم، فيما بعد، الاحتجاج بأعلى الأصوات، مما سيؤدي بالسياسيين، إلى احتمال الاستجابة لتلك الاحتجاجات بمحاولة السيطرة أكثر على السلطة. هذا من ناحية.
من ناحية أخرى، فإن الدول التي سارعت بإعلان الحرب ضد الفيروس، ليست مهيئة عملياً لصد عدوانه. ذلك أن عليها اللجوء والاعتماد على بنيتها التحتية الصحية، من مستشفيات، وعيادات، وأطباء وممرضين وأدوية ومختبرات طبية... إلخ. لكنها، للمفارقة، هي الدول نفسها التي سعت، خلال السنوات الماضية، إلى حرمان تلك البنية من الأموال اللازمة لتقويتها وتطويرها. فبعد تعرض بريطانيا ودول الغرب الرأسمالي لأزمة عام 2008 المالية، وما سببته من أضرار، وتهديد بانهيار النظام المالي الدولي، مما اضطر الحكومات إلى سرعة التدخل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، تبنّت معظم تلك الدول سياسة تقشفية، تسببت في حدوث أضرار كبيرة بكثير من القطاعات المهمة. ففي بريطانيا، مثلاً، وبعد هزيمة حزب العمال في انتخابات 2010، جاء المحافظون إلى السلطة في ائتلاف حاكم مع حزب الأحرار الديمقراطيين، تحت قيادة رئيس الوزراء الأسبق ديفيد كاميرون. وفرضت الحكومة برنامجاً تقشفياً استثنائياً. واستمرت تلك السياسة لمدة عشر سنوات متتالية. وكان القطاع الصحي أكثر القطاعات تضرراً. مما أدى إلى تضعضع خدماته، وضعف استجاباته لمتطلبات المواطنين. وحين جاءت الأزمة الوبائية الحالية، لم يكن لدى المستشفيات البريطانية العامة ما يكفي من أجهزة وأطباء ومختبرات وممرضين لمواجهتها. وقاد ذلك إلى خلق حالة من الارتباك العام، خاصة لدى فشل الحكومة حتى في توفير مستلزمات الحماية اللازمة للعاملين في المستشفيات، للوقاية من الإصابة بالفيروس.
المعارك التي تجري، حالياً، في عواصم دول الغرب في الحرب ضد الفيروس، بغرض وقف تقدم زحفه، وإجباره على التراجع، وأخيراً هزيمته، ما زالت حسب البيانات الرسمية الصادرة عن الحكومات، حتى الآن، في بداياتها. لكن تفاقم أعداد المصابين والضحايا، نزع ورق التوت عن تلك الحكومات، وكشف حجم تقصيرها في الاهتمام بالقطاع الصحي، وحرمانه من الأموال اللازمة. أضف إلى ذلك، أن سرعة انتشار الوباء - العدو، وما تتطلبه من سرعة في وضع الخطط للتقليل من حجم أضراره، أدت إلى فرض حالة طوارئ، سببت شللا للقطاع الاقتصادي، طالت انعكاساتها كل قطاعات المجتمع، الأمر الذي اضطر الحكومات إلى المسارعة بالتدخل عبر ضخ أموال هائلة لرفد الجدران المتصدعة، تفاديا لسقوطها أنقاضا.
الجدير بالذكر، هو أن الحكومات التي أعلنت الحرب ضد الوباء، لم تملك أي منها خطة مسبقة، تمكّنها من المجابهة. ومن خلال رصد ما حدث ويحدث، فإن المبادرة حتى الآن ما زالت بيد العدو – الوباء، وأن دور الحكومات يقتصر على رد الفعل، آخذين في الاعتبار غياب التنسيق والتعاون بين هذه الحكومات منذ اليوم الأول للمعارك. بل إن الأمر تجاوز ما كان متوقعاً، وبدلا من التنسيق والتعاون دخلت تلك الحكومات في تنافس محموم للاستحواذ على المعدات الطبية اللازمة لتوفير الحماية للمواطنين، وتجاهل تقديم العون والمساعدة لبعضها، وكأنها في حرب فيما بينها وليس ضد عدو مشترك.