TT

ترمب في الشوط الثاني من مباراته الرئاسية

الرئيس الأميركي دونالد ترمب سيجعلُ من المبارزات الانتخابية القادمة للرئاسة الأميركية، حلبة للمصارعة الشاملة فيها من اللكم والضرب فوق الحزام وتحته، وعلى الوجه والسيقان.
ستكون مواجهته مع غريمه القادم من الحزب الديمقراطي مشاهد لا تغيب عنها الخبطات الصوتية الساخرة، وعبارات التهكم التي تندفع مع الالتفاتات التي يحرك فيها رأسه في كل الاتجاهات. سيناريو تلفزيوني معدٌّ مسبقاً بتقنية يعرفها ترمب الرجل الإعلامي المصارع والمضارب في سوق الحياة الأميركية الصاخبة. إنجازاته الاقتصادية، وعوده في حملته الانتخابية السابقة، سيعيدها بالتفصيل ويتحرك بفمه وجسده مستشهداً بالأرقام بما حققه من إنجازات تحت شعار «أميركا أولاً». في الشوط الثاني من مباراة الرئاسة سيضيف إلى شعاره كلمة «وأخيراً»... أي «أميركا أولاً وأخيراً».
دونالد ترمب هو نتاج أميركي كامل الدسم، من بدايته إلى كل أطوار مسيرته. أجداده مهاجرون من ألمانيا التي قدّمت لأميركا العلماء، الذين طوّروا الصناعة الثقيلة، ومخترعي القنبلة النووية، والجنرالات الكبار وكذلك السياسيين الذين لعبوا دوراً بارزاً في حياة أميركا منذ توحيدها. طاف الشاب الأشقر بين مربعات ومستطيلات الدنيا الجديدة، طالباً عسكرياً وجامعياً، ثم اندفع في نشاط والده الثري. العقارات في أميركا هي صناعة وتجارة وحياة أيضاً. الإفلاس قرين للمغامرة، ولكنه مدرسة للمصارعة في ساح الأسواق. ترمب ابن أبيه والنجم المتحرك وسط جمع من إخوته، لم يتردد في ارتياد مربعات المصارعة الجسدية والتلفزيونية والصحافية. لا يرضى بالفوز بالنقاط، هو المصمم دائماً على رفع قبضتي الانتصار في نهاية كل مواجهة بالضربة القاضية. حتى في حياته الشخصية جداً، لا يغامر إلا في الأمور العظيمة. عشيقاته وزوجاته جميلات ترنو إليهن الأنظار، ومشروعاته العقارية أبراج شاهقة، ومتنزهات نوعية تُشد إليها رحلات الأغنياء.
اليوم هو في انتظار الشوط الثاني في مباراة رئاسته القادمة، منتظراً المبارز القادم من الحزب الديمقراطي، جو بايدن عضو الكونغرس ونائب الرئيس السابق براك أوباما. لا شك أنه يعلم علم القين أن معركته في حالة ترشيح حزبه له، يعلم أن منازلة ترمب أشد من سباقه الحزبي مع صديقه بيرني ساندرز. الحضور الكاسح للرئيس ترمب في مناظراته المرئية مع بايدن ستكون إحدى المناظرات التاريخية وقد تفوق المناظرة المفارقة بين جون كينيدي وريتشارد نيكسون، التي قلبت الحسابات ورفعت الشاب الكاثوليكي الديمقراطي إلى سدة الرئاسة، وهوت بالسياسي المخضرم نيكسون في أول مناظرة تلفزيونية بين مرشحين للرئاسة في تاريخ أميركا. بايدن هو الخصم اللدود لترمب والذي خاض معه معركة مبكرة في موقعة أوكرانيا، وقادت الرئيس ترمب إلى مدرج الاتهام في مجلس النواب الأميركي. لا يستطيع أحد أن يقول إن جون بايدن في كامل لياقته الخطابية الصدامية، التي تمكّنه من تبادل اللكمات العنيفة مع ترمب الذي يمتلك قفازات كلامية صلبة. لقد طرح برنامجاً انتخابياً شاملاً في المرة السابقة أمام هيلاري كلينتون. رفع فيه سقف أهدافه الداخلية والخارجية، وقارع غريمته بالأرقام والوعود والوعيد، وأجَّج نبرات التشدد الوطني متعهداً باستعادة حقوق أميركا المالية التي امتدت إليها أيدي الدول الأجنبية دون نهوض الإدارة الديمقراطية لاسترجاعها، حسب قوله. جون بايدن يرى فيه الديمقراطيون الصوت المعتدل القادر على توحيد صفوفهم، وتعبئة كل الطيف الديمقراطي من ذوي الأصول الأفريقية واللاتينية والآسيوية، ولن يعدم المؤيدين من جموع البيض ذوي الأصول الأوروبية.
كان بيرني ساندز، الذي انسحب من السباق، يرفع صوت اليسار الاجتماعي، قد ترنّح مبكراً أمام جون بايدن في تصفيات الحزب الديمقراطي على مستوى الولايات. له قوة مؤيدة من الشباب الذين تستهويهم الشعارات الساخنة التي يرفعها. يردّد عبارات، العدالة الاجتماعية والرأسمالية والاستغلال، شعارات من قاموس لا جذور لكلماته في مجتمع أميركي تعدّ الرأسمالية والليبرالية جزءاً من تكوينه المتأصل والموروث. على الرغم من أصوله اليهودية لا يخفي ساندرز اعتراضه الشديد على التأييد الأعمى لدونالد ترمب للسياسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين. ربما يكون بيرني ساندرز أكثر قدرة من بايدن على مقارعة ترمب على حلبات المناظرة، إلا أنَّ لياقته الكلامية أفضل بكثير من لياقته الصحية.
كل المؤشرات تقود إلى أفق أميركي فيه الكثير من القديم المتكرر، والجديد غير المعهود في مضمار سباق الرئاسة الأميركية. لكل من الحزبين الجمهوري والديمقراطي سياسات عامة في المجلات المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والسياسة الخارجية. يتفق في مجملها مرشحو كل حزب ويختلفون مع برامج مرشحي الحزب الآخر. في التصفيات الانتخابية داخل كل حزب يقدم المترشحون تفاصيل برامجهم وآليات تنفيذها. هناك ثوابث في سياسة الحزب الجمهوري التي تقوم على المحافظة والميول اليمينية، والارتباط بالشريحة البيضاء من الشعب، والتمسك بقوانين الاقتصاد الرأسمالي، في حين يمثل الحزب الديمقراطي الوعاء السياسي للأقليات خصوصاً ذات الأصول الأفريقية واللاتينية، ويطرح برامج اجتماعية تحمّل الدولة مسؤولية أكبر نحو الطبقة الأكثر احتياجاً.
الجديد الذي سيبرز في الانتخابات الرئاسية القادمة، ما أضافه الرئيس دونالد ترمب بشخصيته وسياساته الداخلية والخارجية. لقد حوّل شعاره الانتخابي (أميركا أولاً) إلى أفعال على المستوى الداخلي والخارجي، إذا نجح في إضافة مواقع عمل كبيرة، وخفَّض حجم البطالة، وخاض معارك مع البعيد والقريب من أجل إعادة رسم خريطة جديدة لتجارة أميركا مع الصين وأوروبا. نفّذ وعده ببناء الجدار مع المكسيك وتحجيم الهجرة ومراجعة اتفاقية «نافتا» مع المكسيك وكندا، وكذلك تمويل حلف الناتو. انسحابه من اتفاقية المناخ الدولية كان صداها في داخل أميركا إيجابياً عكس ما كان خارجها.
دونالد ترمب قارع وسائل الإعلام، وخاض معها معارك صدامية علنية، ونجح في سياسة الإنزال خلف الخطوط كما يفعل العسكريون. سخّر تقنية «تويتر» لتكون آلته الإعلامية التي تشدُّ إليها عشرات الملايين. أضف إلى ذلك أن الديمقراطيين بمحاولتهم عزله، قدموا له خدمة بلا حدود. فبعد إسقاط التهم الموجهة إليه، أصبح البريء والضحية الناجية. إذا لم يحدث خلال الأشهر القادمة زلزال بثماني درجات بمقياس ريختر السياسي يهزّ الرئيس ترمب، فسيرفع يديه قبل الجولة الخامسة عشرة فوق حلبة انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) القادم، منتصراً بضربته التي رافقته عقوداً طويلة في مبارياته التي لم تتوقف فوق كل الحلبات.