كليف كروك
TT

مفاضلات «كورونا» التي لن تنتهي

إن أزمة فيروس «كورونا» مرعبة، ليس بسبب نطاقها الواسع والمذهل فحسب، بل أيضاً لمقاومتها التحليل العقلاني. فالفيروس يجبر الحكومات على اتخاذ قرارات هائلة، دون معرفة النتائج التي ستحققها أو الكيفية التي يمكن أن تكون عليها مسارات العمل البديلة.
فتلك حالة مقلقة للغاية لذوي الألباب، لدرجة أن المرء يتطلع إلى قواعد تضع حداً للشك، وتضع التعقيدات والمفاضلات جانباً، وتقدم بعض الوضوح. ويبدو أن «كل ما يجب وما لا يجب فعله، والقلق اللاحق بشأن المبالغة في رد الفعل» بات أمراً شائعاً بين الجميع. كذلك سيكون الأمر مطمئناً وهادئاً طالما أنك لا تفكر فيه كثيراً.
مع خسارة آلاف الأرواح، وتكبد خسائر اقتصادية هائلة قادمة، لا يزال فيروس كورونا يحلق في عالم فسيح من عدم اليقين. ففي الوقت الحالي هناك القليل من المعلومات بشأن حساب الاحتمالات القابلة للاستخدام. وفي مرحلة ما، سيكون هناك مزيد من الوضوح بشأن الحالات الفعلية والانتقال بين مجموعات سكانية مختلفة، في ظل أنظمة سياسات مختلفة وظروف مختلفة، وإعلان لمعدلات الوفيات الحقيقية، والفترات المعدية، والحصانة المكتسبة، وما إلى ذلك، بما يكفي لفهم أفضل لتطور الوباء وإيجابيات وسلبيات التدخلات المختلفة. لكن معرفة كل ذلك في وقت لاحق لا فائدة منه الآن. شيء واحد تجب معرفته هو أن مطلب «انتظر وشاهد» ما سيجري، ليس خياراً.
وسط كل هذه الشكوك الكبيرة، تستمر المفاضلة الحاسمة بين الخطوات التي نتخذها الآن لإنقاذ الأرواح، وبين الأضرار التي ستُلحقها هذه الخطوات بالاقتصاد. للوهلة الأولى، وبروح «افعل كل شيء»، يتوق المرء إلى إنكار هذه المقايضة التي تتمثل في التالي؛ يجب على الحكومات التحرك الفوري لإنقاذ أكبر عدد ممكن من الأرواح، مع الحد من الضرر الاقتصادي قدر الإمكان.
يدعم هذا التفكير وجهة النظر القائلة بأن التردد في اعتماد «عمليات الإغلاق» في كثير من الدول الغربية كخيار للتخفيف من حدة الإجراءات القمعية كان خطأ فادحاً، فالحقيقة أكثر تعقيداً.
إن المقايضة غير المعترف بها بين إنقاذ الأرواح وإلحاق الضرر الاقتصادي أمر لا مفر منه، فهي مخبأة في الطريقة التي نعيش بها حياتنا العادية. فالإنفلونزا الموسمية تقتل (أو تساهم في قتل) عشرات الآلاف سنوياً في الولايات المتحدة، ولا توجد دعوات للـ«تأمين» عند ظهور أولى علامات الارتفاع الموسمي. واللقاحات الفعالة تتوفر جزئياً، لذلك نحن مرتاحون بشأن تلك الخسائر في الأرواح التي يمكن تجنبها، حتى إننا لا نقبل التكلفة العامة لجعل التطعيم مجاناً.
لتهديد فيروس كورونا ترتيب مختلف تماماً، وشروط المقايضة ستكون مختلفة تماماً بمجرد أن تتم معايرتها. لكن صناع السياسة لا يزالون بحاجة إلى تحقيق التوازن، مع الاعتراف (شاءوا أم أبوا) بأن معضلة الأمان والتكلفة لم تختفِ.
يمكنك أن ترى ذلك في الغموض المحيط بـ«الإغلاق» حيث يجري حثّ الناس في الولايات المتحدة وأوروبا، أو إرغامهم على البقاء في منازلهم، باستثناء القيام بالأنشطة الأساسية. لكن؛ ما هو الضروري؟ الحكومات ليست متأكدة، فهم يستخدمون المصطلح دون معرفة ما يعنيه. على سبيل المثال، لم يكن واضعو السياسات في المملكة المتحدة على يقين مما إذا كان أمرهم الذي أصدروه بالبقاء في المنزل ينطبق على عمال البناء أم لا. وسبب الغموض على وجه التحديد هو أن المقايضة الأساسية لن تختفي. هذا يعني عدم وجود خط واضح؛ إلى أي مدى يؤدي إغلاق الأشياء إلى إيقاف الشركات عن العمل وبقاء الأشخاص عاطلين، يخبرك بما هو «ضروري».
على نفس المنوال، وفي ظل الظروف الحالية، لا يوجد خط واضح في مصطلحات السياسة يفصل بين نهجين للوباء، يتناقضان أحياناً كما لو كانا مختلفين بوضوح؛ «التخفيف» و«القمع».
من الناحية الوبائية، يمكنك تحقيق القمع عندما يَنقل كل شخص مصاب، في المتوسط، المرض إلى أقل من شخص آخر. قلل من الاتصال بين الأشخاص بما يكفي للقيام بذلك وسينتهي الوباء. بالنسبة إلى اختصاصي الأوبئة، فإن التخفيف يعني نشر الحالات المصابة لتقليل العبء على الأنظمة الصحية غير المستعدة للطفرة، لكن دون العمل على وقف الوباء قبل أن ينتهي الأمر بأنه لم يعد هناك إنسان لم تنتقل إليه العدوى.
من الناحية العملية، فإن الفارق أقل وضوحاً بكثير. فالعلماء ليسوا متأكدين بعد من نقطة انطلاق فيروس «كورونا»، أي عدد الأشخاص الذين يصيبهم كل شخص مصاب في مجموعة معرضة للإصابة. يبدو أن ما يسمى رقم الاستنساخ الأساسي يتراوح بين 2 و3. ما يشمل مجموعة واسعة من السيناريوهات المستقبلية، حتى قبل أن تحسب حساب أمور أخرى غير معلومة. ولا يعرف صانعو السياسات أيضاً إلى أي مدى قد ينجح كل تشديد متتالٍ لقواعد التباعد الاجتماعي، بدءاً من حث الناس على عدم الاختلاط في التجمعات الاجتماعية الكبيرة إلى تجريم جميع الاتصالات «غير الضرورية» في الحد من الإصابات الثانوية. لذا، فإن اختيار السياسة ليس بين خيارين «أ» و«ب» محددين بوضوح؛ التخفيف والقمع. فمن الناحية العملية، يتعين على الحكومات أن تختار نقطة على طيف مستمر من القيود المتصاعدة، ولا تعرف حتى الآن كيف ستؤثر هذه القيود على قابلية الانتقال، والمدة التي يمكن أن تستمر فيها، أو في أي نقطة «إن وجدت» سيتم تنفيذ القمع، وكل ذلك خلال معرفة أن كل خطوة إضافية تخاطر بتعطيل الاقتصاد.
من الأفضل الاعتراف بهذه الشكوك عن التظاهر بعدم وجودها. والاعتراف بها لا يعني الشلل، لكنها محاولة لتخفيف تهمة التقصير وتحاشي الإهانة، بما في ذلك انتقاد الحكومات على ترددها الأولي في تقييد الاتصالات الشخصية بين الأشخاص بشدة.
لقد ارتكبت أخطاء واضحة بالتأكيد، لكن معظمها قبل أن يبدأ الوباء. كانت حالة الطوارئ هذه حدثاً متوقعاً. وبدا أن الحكومات كرّست الفكر والجهد من أجل التأهب، ومع ذلك فإن أنظمة الغرب كانت غير مستعدة تماماً. كانت النظم الصحية تفتقر إلى مخزون المعدات الأساسية.
تتمتع المستشفيات بقدرات تصاعد محدودة للغاية، ويبدو في معظم الحالات أن الحكومات ليست لديها خطط لتطوير هذه القدرات في وقت قصير. فلا يزال الافتقار إلى الاستعداد يربك الخيارات الذكية حول أفضل طرق الاستجابة، ومنها القيود المفروضة على اختبار الفيروس. وعلى سبيل المثال، لا تزال طبيعة العدو محجوبة، وكذلك جرى استبعاد سبل التدخل المرغوبة الأخرى، مثل عزل ناقلات المرض بدقة قبل أن تتمكن من إصابة الآخرين.
في الوقت الحالي، فإن القيود الصارمة على الاتصال الشخصي، والجهود القصوى لبناء قدرات اختبار الفيروس، وزيادة القدرات في الأنظمة الصحية، والدعم الاقتصادي غير المحدود للشركات والعمال، الذين تم إغلاق مصانعهم بموجب مرسوم حكومي، قد يكون أفضل ما يمكننا القيام به. إذا كان هذا يعني في النهاية التخفيف بدلاً من القمع، فسنكون قد أمهلنا بعض الوقت لبناء قدرات النظام الصحي، ويأمل المرء في تطوير المعرفة اللازمة لعلاج المرض والوقاية منه.
لكن، بقدر ما قد نرغب في تجاهل ذلك، لا يمكن إنكار المقايضة الكامنة بين مكافحة المرض وسحق الاقتصاد. وسواء اعترفنا بذلك أم لا، فهذا ما تمليه الأحداث بالفعل.

- بالاتفاق مع «بلومبرغ»