محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

العقاب الاجتماعي

قامت الدنيا ولم تقعد في بلد عربي، بعد مقطع فيديو قصير اشتكت فيه امرأة في محجرها المؤسسي (الإجباري) من عدم وجود صلصة في طبق السلطة التي اعتبرتها «ناشفة»، ولا تصلح للأكل، فرمتها. والأغرب أنها انتقدت الأكل، موجهة كلامها لوزير ليست له علاقة أصلاً بالمأكولات! وزادت الطينَ بلةً امرأةٌ أخرى تضايقت من وجود قطرات قهوة على أرض المحجر، وربما سريرها، فصبت جام غضبها هي الأخرى على الحكومة، في وقت تواجه فيه كل بلدان العالم مرض العصر فيروس «كورونا المستجد»، وذلك في جائحة غير مسبوقة تحصد أرواحنا، ولم نجد لها علاجاً، وأوقفت بسببها البلدان مطاراتها ومدارسها وأسواقها ومقرات عملها. بعد تفشي الفيروس، معظم أرجاء الكرة الأرضية سادها الصمت مع تطبيق حظر تجول وإغلاق شامل.
ويبدو أن هذا الهدوء وجد طريقه إلى تلك المرأة، التي اعتذرت لاحقاً، لكن بعد فوات الأوان، إذ سخطت عليها جموع هائلة من الشعب. فتنوع هجومهم بين أغاني «ريمكس» تهكمية، ومقاطع مسرحية، ولقطات متلفزة أتوقع أنها لم تذق بسببها طعم النوم في تلك الليلة.
هذه الحادثة ذكرتني أنه ليس كل حديث يحتاج أن نزج الناس بسببه في السجون، أو نفرض عليهم غرامات باهظة، ذلك لأن السخط الشعبي قد يكون أبلغ رد على تصرف مستهجن من تحرير مخالفات. ولذا أنا ضد سجن الإنسان على كلمة عابرة يتفوه بها. فالعقاب الاجتماعي أو الخشية من الناس (social validation) قد يكون أكثر وقعاً، وربما «تعزيراً» لصاحب الفعل المستنكر. من حق الناس أن تعبر عن رأيها، ولكن كل من يقرر أن يشارك الناس بأمر لا يستحق، وبتوقيت غير مناسب، ضارباً عرض الحائط بجهود جيش من المتطوعين في الصفوف الأمامية والمحاجر، يجب أن يتحمل تداعيات اختياره، مع تحفظنا على كل إساءة شخصية بعيدة عن الفعل نفسه.
والأمر نفسه تكرر مع شاب عاد من غربته، ليفرغ همه على شكل حالة هستيرية من التندر على رجال الأمن وأشكال المضيفين في طائرة إجلاء وهم في ملابسهم البيضاء الوقائية وخوذهم القطنية، حيث شبههم بمربي النحل! فاضطر أن يعتذر بعد «سياط» العقاب الاجتماعي.
الدراسات الرصينة للباحث روبرت سيالديني، وزملائه، أظهرت أن الخشية من «العقاب الاجتماعي» قد تدفعنا إلى تغيير ملحوظ في السلوك، أو بالأحرى مراعاة النظام السائد (compliance). وكذلك التفكير ملياً قبل الإقدام على فعل ما قد يجابه بحملة نقد عارمة ألطفها إطلاق وسم ساخر (هاشتاغ في تويتر). فقد أظهرت إحدى تلك الدراسات الشهيرة أن الناس في دور السينما، حينما يرون من حولهم لا يحملون بقايا الأطعمة والفشار إلى سلة المهملات بعد انتهاء الفيلم، فإنهم يميلون إلى تركها مكانهم تأسياً بمن حولهم، والعكس صحيح. هذا ما يسمى علمياً بـ«التأثير الاجتماعي» السلبي (social proof). وهو ما يشبه «عقلية القطيع»، إن جاز التعبير. وهناك عدد كبير من الأبحاث قرأتها تدعم هذه الدراسة، ومدى تأثير الناس على سلوكنا.
ولحسن الحظ، فإن العقاب الاجتماعي لا يتطلب إشهار أسلحة، فمجرد نظرات استنكارية، أو كلمات لاذعة، كفيلة بردع السلوك المستهجن. وما حملات الهجوم في وسائل التواصل الاجتماعي إلا مثال جلي لدفع المواطن والمقيم والمسؤول للتراجع عن إساءته، أو تلطيف «تجريحه» للآخرين.
وأنا على يقين من أن الهجوم الذي طال تلك الشخصيات المسيئة قد دفع عشرات الألوف للتفكير ملياً قبل الإقدام على ضغط زر «إرسال» لفيديو أو نص مسيء، خشية أن يذوقوا مرارة العقاب الاجتماعي.