علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

عواد بين مي وسلامة

في موقفه الهجومي من علماء الدين وأشياخه في كتابه «خواطر مصّرحة»، كان محمد حسن عواد مقلداً لأحد مثقفي الراديكالية العلمانية في عصر النهضة العربي. هذا المثقف هو ولي الدين يكن، الذي انفرد في موقفه المفاصل والهازئ بعلماء الدين ورجاله وبالمتدينين الذي لا يدانيه فيه مثقف آخر من مثقفي الراديكالية العلمانية في ذلك العصر، سواء أكان مسلماً أم مسيحياً. هذا الموقف كان يجهر به عبر قصص حصلت له مع أولئك وعبر أقوال يطلقها.
ولقد مرّت بنا في مقال سابق قصة قصّها في مقاله «مداعبة مع العلماء» مع شيخ دين كنتُ قد ناقشتُ فحواها. وفي مقال آخر من مقالات كتابه «خواطر مصرحة»، وهو مقال «بين الجزر والمد» قصّ قصة ثانية، مع شيخ دين آخر، سأقف عندها لعرضها ثم مناقشتها، لإظهار الفرق بين النقد الأصيل والنقد المستعار، بين النسخة الأصلية والنسخة المصورة، وقبل أن أفعل هذا سأقف عند مقاله هذا.
مقاله هذا عرض احتفائي لكتاب مي زيادة: «بين الجزر والمد: صفحات في اللغة والآداب والفن والحضارة»، نقل فيه فقرات مما قالته في أربع مقالات من مقالات هذا الكتاب. وقبلها نقل فقرة مما قاله سلامة موسى عنها. ولأن هذا النقل الأخير اعتوه أكثر من عيب، فإنني سأبيَّن للقارئ عيوبه، بعد أن أورِد نصّ الفقرة التي نقلها عن سلامة موسى:
«كاتبة الشباب تنافح عن حقوقه، وتعتذر عن أغلاطه... ثم هي لأنها شرقية تحب الشرق... ثم لأنها ذكية تحب الحضارة والحث على اصطناعها، لأنها من الجهة الواحدة نتاج عظيم للذهن الإنساني، ومن الجهة الأخرى سلاح يمكن الشرق أن يردّ به عادية الغرب».
العيب الأول في هذا النقل أنه أوهم القارئ بأن هذه الفقرة مأخوذة من مقال من مقالات سلامة موسى، لا صلة له بكتاب مي زيادة ومناسبة صدوره، لأن كلام سلامة موسى فيها كان مقتصراً على الثناء على منافحتها عن حقوق الشباب واعتذارها عن أغلاطه، والإشارة إلى أنها محبّة للشرق لكونها شرقية، ومحبة للحضارة وحاثة على اصطناعها لكونها ذكية. أوهم القارئ بهذا مع أن تلك الفقرة مأخوذة من السطور الأولى في تقديم سلامة موسى لكتاب مي!
العيب الثاني أنه حذف كلمات من تلك الفقرة من دون أن يضع مكانها علامة حذف، كما فعل بعد جملة «وتعتذر عن أغلاطه»، وبعد جملة «تحب الشرق». الكلمات التي حذفها من دون أن يشير إلى ذلك هي التي أتت بعد جملة «لأنها ذكية تحب الحضارة». فتتمة هذه الجملة هو ما يلي: «الغربية وتدعو إليها. وذكاؤها ووطنيتها كلاهما يدفعانها إلى الإعجاب بهذه الحضارة والحث على...». وكما ترون، فإن الحذف هنا أخلّ بالمعنى الذي قصده سلامة موسى، بل جعله غير مفهوم. فأي حضارة تحب مي زيادة؟! وما الحضارة التي تحث على اصطناعها؟!
العيب الثالث أن ما حذفه بعد الجملة الأولى لم يكن حذفاً موفَّقاً، لأنه يظهر مي زيادة في صورة أقل مما أراد سلامة موسى أن يظهرها فيها، ودون ما هي عليه حقاً، مع أن غرضه من نقل تلك الفقرة التي قالها سلامة موسى عنها أن يعرّف قرّاء الحجاز بها، لشدة إعجابه بها، إذ إنه يراها مثالاً أعلى في الكتابة، ليس بين النساء وحسب، وإنما بين النساء والرجال.
ما حذفه من تلك الجملة، هو قول سلامة موسى عنها: «وهي تفعل كل ذلك بروح الاعتدال مسوقة في ذلك بالطبع لا بالتطبع».
وفي اعتقادي أنه حتى لو أثبت هذه التتمة، فإن الجملة الثانية تظل غير كافية في التعريف بنهج مي زيادة ومزية منحاها الكتابي، كما يراه مثقف راديكالي مثل سلامة موسى. لأن القول فيها قول مجمل. ولأنه قول مجمل، فلقد فصّله سلامة موسى في فقرة تالية، فأوضح ماذا يعني بعبارة المنافحة عن حقوق الشباب. وماذا يعني بروح الاعتدال. لكنه أهمل في هذا التفصيل ماذا يعني بعبارة الاعتذار عن أغلاط الشباب!
وفي اعتقادي أيضاً، أن سلامة موسى أخطأ في التعبير فظلم بالتالي مي من دون قصد في توضيحه الأول، فمي زيادة لم تكن «تساير الشباب في رغبته في تجديد اللغة والميل بها إلى التطور والإقلاع عن الجمود، وتسايره أيضاً في نزعته إلى الإصلاح الاجتماعي أو الاشتراكي... وفي تشوفه إلى صوفية طليقة من القيود المذهبية والفروق الدينية». فهي في هذا القضايا تعبر عن إيمانها الحقيقي، الذي ليس به مسايرة أو مجاراة لمعتقدات أقرانها من الشباب المتحرر والتقدمي.
وكذلك، فإن ما حذفه محمد حسن عواد في الجملة الثانية لم يكن حذفاً موفقاً. فالجملة التي حذفها هي قول سلامة موسى: «وبخاصة مصر وسوريا بقلبها وعواطفها». وأرى أنه حذف هذه الجملة، لأنه قد عزّ عليه أن سلامة موسى لم يشمل الحجاز مع مصر وسوريا في تخصيص حب مي زيادة للشرق. عزّ عليه هذا، لأنه شديد الإعجاب بمي زيادة من جهة، وشديد الإعجاب بآراء سلامة موسى اللغوية والأدبية من جهة ثانية.
ولغرض التوضيح، سأذكر أمرين، هما:
- مي زيادة أبوها لبناني أقام في الناصرة بفلسطين. وتعرف إلى أمها في هذه المدينة ثم تزوجها. وأمها فلسطينية من أصل سوري. وفي القرن ما قبل الماضي وفي معظم سنوات المنتصف الأول من القرن الماضي، تعني سوريا، سوريا الحالية ولبنان وفلسطين وشرق الأردن أو الضفة الشرقية. ويُسمّى أهالي هذه البلدان بالسوريين. ويسمَّون (أيضاً) بالشوام. والشوام بهذا المعنى تسمية ما زالت تُستخدم إلى الآن.
- سلامة موسى مناهض للرابطة الشرقية منذ أن كونت جمعيتها في عام 1921. وهو لا يحب لمي زيادة أن تحب الشرق. ولم يعالنها برأيه هذا في مقدمته لكتابها، لأنه منذ تعرف إليها في عام 1914، وكانت في سن العشرين، كان معجباً بها. فأجرى معها في العام نفسه في مجلة «المستقبل» التي كان يديرها هو وشبلي شميل حديثاً يقول عنه إنه أطراها فيه إطراء عظيماً. وإعجابه بها كان يتعدى الإعجاب الأدبي بها. هذه المعلومات أفصح عنها في مقاله «ذكريات عن حياة مي»، الذي تضمنه كتابه «تربية سلامة موسى». هذا سبب. والسبب الثاني أنها قد خصّته بكتابة مقدمة كتابها.
وبناءً على هذين التوضيحين كان يجب على محمد حسن عواد ألا يعز عليه أن سلامة موسى لم يشمل الحجاز مع مصر وسوريا، في تخصيص حب مي للشرق. فمي هي مِن سوريا بالمعنى الذي شرحناه. وهي شامية متمصّرة. وسلامة موسى أساساً ضد التفات مصر إلى الشرق وخلق رابطة معه، بما في ذلك سوريا، لكنه ساير مي في توجهها الشرقي، لأن إعجابه بها (كما قلنا) يتعدى الإعجاب الأدبي.
العيب الثالث أن محمد حسن عواد تصرّف في آخر عبارة من الفقرة التي نقلها عن سلامة موسى. فالعبارة (كما كتبها سلامة موسى) هي «غارة الغرب». وغيّرها محمد حسن عواد إلى «عادية الغرب»!
كلمة «عادية»، التي تحمل المعنى نفسه لكلمة «غارة»، هي التي دفعتني إلى أن أعود إلى مقدمة سلامة موسى لكتاب مي زيادة لأقرأها مجدداً، لكي أطابق نص الفقرة المنقول منها مع نص الفقرة الأصلي. فمن معرفتي بأسلوب سلامة موسى، كنتُ متأكداً أنه لن يستعمل كلمة «عادية». وسيستعمل كلمة شائعة. فهذه الكلمة ينفر سلامة موسى من استخدامها، لأنه يعدّها كلمة متقعرة.
والحق أن هذه الكلمة بصيغة المفرد قليلة الاستعمال. فهي شائعة عند الكتاب بصيغة الجمع: عوادي الزمن أو الدهر. شائعة عند كتاب ليسوا من مذهب سلامة موسى اللغوي الذي يفضل على استعمال كلمة «عوادي» استعمال كلمة «مصائب».
ولا أعلم ما الحكمة التي ابتغاها محمد حسن عواد من تغيير كلمة «غارة» إلى كلمة «عادية».
العيب الرابع أنه بعد الفقرة التي نقلها من مقدمة سلامة موسى مباشرة، قال بين علامتي تنصيص:
«معظم الكتَّاب يتناول أبحاث تاريخ آداب اللغة العربية، ولكن بأسلوب الخطابة لا بأسلوب التأليف، وهذه الميزة العصرية هي كل ما جذبني إلى درس مقالاتها، ثم إلى الإعجاب بآرائها أخيراً والهتاف: (لتحيا الآنسة مي!)».
قارئ الكتاب في طبعته الثانية، طبعة 1961، وهي الطبعة المتوفرة في المكتبات العامة سيحسب أن هذا الكلام فقرة أخرى من كلام سلامة موسى عن مي زيادة.
في الطبعة الأولى النادرة، طبعة عام 1926. التي قدم لها وحققها الدارس والناقد حسين بافقيه لن يلتبس على قارئها أن الكلام لمحمد حسن عواد وليس لسلامة موسى، لأن هذا الكلام سيقرأه من دون علامة تنصيص، ولأنه وضعت إلى يمين سطره الأول شرطة للفصل ما بين كلام سلامة موسى وكلام محمد حسن عواد. ولعل علامة التنصيص كانت تصحيفاً طباعياً. ففي الصفحة الأخيرة من الطبعة الثانية وضع محمد حسن عواد ثبتاً في الأخطاء المطبعية التي وقعت في الكتاب. وقال في خاتمتها: «وقد يكون في الكتاب أخطاء مطبعية أخرى من هذا النمط فنرجو القارئ أن يعدلها إلى صحتها».
كنت قد قلتُ إن محمد حسن عواد كان شديد الإعجاب بآراء سلامة موسى اللغوية والأدبية. ولأنه كان كذلك لم يلتفت إلى أن سلامة موسى قوّل مي زيادة ما لم تقله. فهو قد قال إن مي زيادة في مقالها عن مجمع اللغة العربية كانت «تتهكم من طرف خفي على أولئك الشيوخ الذين ألّفوا المجمع اللغوي، فما هو أن تركهم لطفي السيد حتى انتثر عقدهم».
ما قاله غير صحيح، فهي في هذا المقال تتحسر على انفراط حبل إنشاء مجمع لغوي، تحمس لإنشائه لطفي السيد مرة ثالثة قبل أن يستقيل بسنة من رئاسة دار الكتب المصرية في الفترة الأولى من رئاسته لهذه الدار (1916 - 1918). فهو أمّن لأعضائها، وكان هو عضواً فيها، مقراً في الدار، وسمى المجمع «مجمع دار الكتب». ولما نشبت ثورة 1919، استقال لطفي السيد من رئاسة الدار وعاد إلى العمل السياسي. فانهارت الفكرة للمرة الثالثة.
مي كتبت مقالها عن مجمع اللغة العربية في ذلك التاريخ. وبحسب ما أخبرتنا في هامش وضعته في أسفل مقالها أنها كتبته أصلاً باللغة الإنجليزية لجريدة «الإجبشن ميل» باسم مستعار هو: أ. خالد رأفت.
مي في آخر هذا المقال كانت تسأل بحرقة: «لماذا لا يتفق الأعضاء المحترمون فيما بينهم على الاجتماع في مكتبة أحمد زكي باشا مثلاً، أو في منزل أي عضو من الأعضاء الآخرين، وكلهم من أهل الجاه، كما أنهم أهل علم وفضل؟!
لماذا لا يتفقون على ذلك؛ فلا يدعون هذا المشروع يغرق في الماء أو يطير في الهواء كأكثر مشروعاتنا الشرقية؟!».
فأين التهكم من طرف خفي بالشيوخ الذين ألّفوا المجمع اللغوي في هذين السؤالين؟
إن سلامة موسى أقحم موقفه الرافض لإنشاء مجمع علمي للغة العربية في موقفها الذي هو نقيض لموقفه، فزوَّره بصفاقة. وادعى أنها تهكمت على الشيوخ المحافظين في اللغة والأدب، ونسي أنه قال عنها قبل الفقرة التي تقوّل فيها عليها، وهو يشرح روح الاعتدال الدائم عندها: «يقرأها الشاب الثائر فيرتاح لها، ويقرأها الشيخ الجامد المتزمت، فلا يجد ما ينقم منها». وللحديث بقية.