إميل أمين
كاتب مصري
TT

السعودية... واجتماع لاستنقاذ البشرية

تحتاج أوقات الأزمات إلى أيادٍ قوية ممسكة بزمام الأمور، قادرة على صوغ المبادرات الخلاقة، لاستنهاض الهمم ودفع الجهود في طريق نجاة الإنسانية وخلاصها من الأزمات.
في هذا الإطار تجيء مبادرة المملكة العربية السعودية لعقد اجتماع افتراضي لدول مجموعة العشرين، في محاولة جادة وجدية لتكثيف الجهود الأممية المبذولة لمكافحة فيروس «كورونا» المستجد.
رئاسة المملكة العربية السعودية لقمة العشرين هذا العام، استدعت هذا الطرح السريع والخلاق للبحث في سبل إنقاذ العالم الذي يتألم في اللحظات الراهنة، من جراء عدو مجهول لن يتمكن شعب بمفرده أو دولة بعينها من مواجهته، ولهذا ينبغي التنسيق بين المنظمات الأممية كافة بكل الطرق لتخفيف آثار هذا الوباء.
القرار الذي اتخذته المملكة سوف يكتب في دفاتر التاريخ بماء من ذهب، وسيبين الدور الريادي والقيادي لها ضمن أطر المجموع البشري لاستنقاذ العالم، عبر تجميع جهود المختصين من وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية لمجموعة العشرين، ناهيك عن كبار مسؤولي وزارات الصحة والتجارة والخارجية، والهدف الواضح في أعين الجميع هو الاستجابة لمتطلبات الأزمة، والإسراع في التعاطي معها بأبعد حد ومد من العقلانية.
أزمة «كورونا» في واقع الحال ليست أزمة صحية أو طبية فحسب؛ إننا أمام نقطة مفصلية في تاريخ العالم المعاصر، سوف تترتب عليها لاحقاً تبعات وتداعيات اقتصادية وسيسيولوجية ستغير من شكل العالم بعد عبور ضفاف الأزمة بإذن الله.
يمكن وصف دعوة المملكة لهذا الاجتماع بأنها من أفكار الابتكار التي يحتاجها العالم في الوقت الراهن؛ دعوة بعيدة عن السياقات التقليدية، لا سيما أن «كورونا» ليس مشكلة؛ بل إشكالية، والفارق كبير؛ فالأولى يمكن إيجاد حلول اعتيادية لها، أما الإشكالية والنوازل فتحتاج إلى عقول مبدعة ومتجددة لتلافي الخطر القائم والقادم مرة وإلى الأبد.
تتبدى مكانة المملكة حول العالم اليوم من خلال الاتصالات الهاتفية، والتنسيق الجاري بين ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، العقل النابض والمحرك الواعي باقتدار في إدارة أزمة «كورونا»، وكبار مسؤولي العالم، كالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون، ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي.
ثلاثة مرتكزات تميز اجتماع الرياض الافتراضي:
أولاً: أنها لحظة مصيرية لإظهار تضامن الإنسانية، فإما أن ينجو الجميع معاً، وإما يغرق قارب البشرية بمن عليه، ومن غير تمييز بين أعراق أو أجناس، أديان أو مذاهب، لا سمح الله.
ثانياً: المطلوب محاولة تخفيف الآثار الكارثية التي خلفها «كورونا» ولا تزال حتى الساعة، فقد أصيب الاقتصاد العالمي في مقتل، ومن غير شبكات اقتصادية أممية وخطط عولمية وشراكة بشرية، لن يتمكن الاقتصاد العالمي من الاستمرار والنمو، ما يعني أن الجميع مدعو لرسم خريطة ما بعد «بريتون وودز»، أي النظام الاقتصادي العالمي الذي تبلور بعد الحرب العالمية الثانية.
ثالثاً: في مواجهة المأساة الإنسانية الناجمة عن هذا الفيروس مجهول الأسباب، المطلوب إيقاف تداعيات انتشار هذا الوباء القاتل، عبر إجراءات تحتاج إلى التنسيق المبدع الذي يسرع من القضاء على الخطر، ومن غير أن يعقد حياة البشر، ذلك أنه إذا كانت دول كثيرة قد أغلقت أبوابها أمام الآخر، فإنه من المأمول ألا يطول هذا الوضع.
والشاهد أنه رغم تداعيات «كورونا» المتسارعة، فإن المملكة عززت الجهود كافة لاستمرار أعمال مجموعة العشرين التي تستضيفها، إلى الحدود التي ارتأت فيها الإعلان عن التوجه نحو تأجيل بعض الاجتماعات، وعقد بعضها عن بعد، مؤكدة مواصلة تقييم الوضع بشأن تطورات تفشي الفيروس.
يمكن القطع بأن أهم نتيجة تنتظرها الإنسانية برمتها من هذا الاجتماع فوق العادي؛ بل والتاريخي، موصولة بالدواء الناجع والسريع لإنقاذ المرضى الذين داهمهم المرض، وللوقاية منه بالنسبة للأصحاء، قبل أن يعم الانتشار وتستسلم البشرية لأقدار أصعب مما هي عليه الحال الآن.
ما يمكن أن تمثله المملكة في هذا الإطار يتجاوز دور القيادة الاعتيادي، بمعنى أنها مدعوة إلى أن تجعل من هذا اللقاء صوتاً إيمانياً يصدر من أراضٍ لها مسحتها الروحية، الأمر الذي يتجاوز الآيديولوجيات الضيقة التي تصارعت -ولا تزال- على قيادة وريادة العالم، وإن شئت الدقة فقل الهيمنة عليه، وبسط أجنحة القوة والعظمة، ونسيان أن فوق العالي عالياً، والأعلى من فوق يراقب الجميع، سبحانه وتعالى.
المملكة مدعوة اليوم لإيقاظ العالم من براغماتيته غير المستنيرة، لا سيما القطاع الدوائي الذي تكثر من حوله الشكوك، وكأنه غير مهموم بفناء قطاع من البشر في مقابل الأرباح الهائلة التي سيحققها، وهنا للمملكة أن تكون صوتاً معاصراً ينبه الناس ويرفع الالتباس.
تبدو المملكة مهتمة بدعم منظمة الصحة العالمية في هذا التوقيت، والعمل معها بشكل وثيق لمراقبة تطورات تفشي الفيروس، ومشاركة المعلومات ذات الصلة، وتشجيع التدابير الوقائية، بالإضافة إلى الكشف المبكر عن حالات العدوى وإجراءات الحماية البشرية.
الملح والملمس الإنساني لدعوة المملكة لإنقاذ العالم من «كورونا» لا يتوقف عند حدود وسدود الدول الغنية الأعضاء، أو من يدور في فلكها؛ بل يمتد إلى فكرة تعزيز بناء القدرات وتقديم المساعدات الفنية فيما بين الدول، بالإضافة إلى -وهذا هو الأهم- دعم الدول النامية ذات الأنظمة الصحية الأضعف.
لقد أحسن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، حين أشار إلى أن تاريخ العالم يمر بأوقات صعبة؛ لكنها ستتحول إلى تاريخ يثبت مواجهة الإنسانية بروح وثابة معاً، من أجل الانتصار على «كورونا»... النصر قادم والفجر قريب.