طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

«أُم سيد» قهرت التنين

جلست «أُم سيد» ليس طبعاً على طريقة «قارئة الفنجان» لعبد الحليم حافظ «والخوف بعينيها» - حيث إن الخوف لا يمكن أن يعرف الطريق إليها - جلست وأمامها الجرائد والمجلات، كما تعودت قبل أكثر من 30 عاماً، وكأن «التنين» أقصد طبعاً عاصفة «التنين» التي أزعجت الملايين ودفعت الحكومة المصرية لاتخاذ العديد من الإجراءات الاحترازية.
أشاهد هذه السيدة مع بضاعتها على الرصيف، رغم أن الأوراق هي الضحية الأولى لسقوط الأمطار، نادراً ما تجد باعة الجرائد يجوبون الشوارع مثلما كنا نراهم في الماضي، ووثقتهم أفلامنا القديمة، بل وأغنية شهيرة شاركت ماجدة في غنائها عنوانها «أهرام أخبار جمهورية»، أم سيد لا تنادي على الجرائد، لأن الكل يعرف موقعها الاستراتيجي، تغادر بيتها كعادتها مع نسمات الفجر لكي تلتقط رزقها اليومي، المعروف أن عدد منافذ توزيع الصحف في السنوات الأخيرة قد تضاءل كثيراً، وأغلبهم تحول إلى مهن أخرى بعد اختفاء الزبائن، ولكنها صامدة في موقعها، إنها الوجه المألوف للجميع، صارت مع الزمن واحدة من أهم معالم الشارع، لا تقرأ ولكنها تعتبر بالنسبة لي «الترمومتر» الأول لحالة قراءة الجرائد والمجلات، حي «المنيل» بالقاهرة، باعتباره مكاناً لتجمع الطبقة المتوسطة تستطيع من خلاله اكتشاف توجه الناس، وبالخبرة باتت لديها وجهة نظر معتبرة في تحديد ما الذي يفضله القراء، طريقتها في ترتيب البضاعة تدرك من خلالها ما هي الجريدة «نمبر وان»، تعلم أن بعض الجرائد لديها يوم مميز في الأسبوع تحقق فيه ذروة المبيعات، ولهذا من الممكن أن تعيد ترتيب «فرشة» الجرائد طبقاً لهذا المؤشر «الزئبقي».
لا تملك دكاناً ولا كشكاً، مجرد عدد من أوراق الكارتون تضعها أمامها، كما تستعين، ببعض الأقفاص المتهالكة، لكي ترتب فوقها الجرائد، وعندما تزداد قوة هطول الأمطار تحتمي بسقف محل الفاكهة الملاصق لها، قلت لها أنت تتحدين، «التنين»، لم تألف بعد الكلمة، ولكنها التقطت المعني وقالت «ولا مليون تنين»، صارت هذه السيدة واحدة من أهم مفردات يومي، هناك جرائد تصل مساء وأخرى صباحاً، ولا أحد يساعدها، فأصبح علي أن ألتقط يومياً جرائدي، فأنا لا أزال من حزب القراءة الورقية ولا ألجأ إلا فقط للضرورة للمتابعة عبر المواقع الإلكترونية، أعلم أني صرت من فصيلة في طريقها للانقراض، ولكن هي عادتي ولم أشترِها، ولا أتصور أنني من الممكن أن أقلع عنها.
هل مارسنا حياتنا على طريقة «أُم سيد»؟، مع الأسف أغلبنا يتحسس الطريق، ويجد ألف عذر مقبول أو غير مقبول للبقاء في البيت، العاصفة التي جاءت لمصر كشفت الكثير من عيوبنا، وهي أننا نبحث عن أي «شماعة» لنتحرر من الالتزامات والواجبات، لا نتمتع بمرونة كافية لمواجهة أي ظرف طارئ، أول قرار نتخذه هو أننا سنلتقي بعد «التنين»، حتى لو كان الأمر عاجلاً، وكأننا لو لم نجد «التنين» عليها لاخترعناه.
الشمس بدأت منذ يومين في التعبير عن نفسها بجرأة أحياناً وخجل أحياناً، بينما «أم سيد» في كل الأحوال لا يثنيها عن أكل عيشها لا زمهرير البرد ولا وهج الشمس، لا تقرأ ولا تكتب إلا أنها تقرأنا وتكتبنا!