عبد الله ولد محمدي
كاتب متخصص في الشؤون الافريقية
TT

موريتانيا في الواجهة: قمة لربح رهانات الأمن والتنمية في دول الساحل

احتضنت العاصمة الموريتانية نواكشوط قمة دول الساحل الخمس (موريتانيا، والنيجر، ومالي، وتشاد، وبوركينا فاسو)، وبحضور فرنسا ممَثلة في شخص وزير خارجيتها جان إيف لودريان، وذلك للمرة الأولى في عهد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني الذي يترأس بلداً مترامي الأطراف، وتشكل الصحراء ثلاثة أرباع مساحته، مع طموح ثابت في أن يكون له دور فاعل في محيطه الجيوسياسي الذي يعرف تقاطبات عدة إثر تفاقم الهجمات الإرهابية في دول الجوار.
خلال الأشهر السبعة من حكمه استمر الرئيس ولد الشيخ الغزواني على الاستراتيجية العسكرية ذاتها التي أرسى أسسها منذ أن كان قائداً للجيش الموريتاني، وتتمثل هذه الاستراتيجية في إغلاق الأبواب الحدودية في وجه الجماعات المسلحة، وأيضاً في وجه تلك التي تشكل حاضنتها، وهي عصابات التهريب بمشتقاته كافة.
نجحت هذه الاستراتيجية إلى حد الآن، لكن بات شركاء موريتانيا في دول الساحل الذين يشاركونها هموم مواجهة أعتى الجماعات وأشدها خطورة؛ «داعش»، و«القاعدة» تحت مسماها الجديد «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين»، ينظرون إلى التجربة الموريتانية بمزيج من الإعجاب والرهبة بعد نجاحها في دمج عاملين أساسيين، هما: الحسم العسكري، والحوار مع حملة أفكار التطرف العنيف، وذلك بالتوازي مع تجفيف منابع تمويل هذه الحركات وضربها في بنيتها التنظيمية، وهو أمر وإن سعت إليه بلدان أخرى فإنه لم يعطِ النتائج نفسها حتى الآن.
ففي مالي وبوركينا فاسو المتضررتين من أشد أنواع الإرهاب فتكاً، تتداول النخبة السياسية والعسكرية، أن الحوار مع الجماعات، وخصوصا قائدَي التنظيمات الأشد فتكاً، أياد أغ غالي، وأحمدو كوفا، قد يكون البلسم الشافي رغم وجود أكبر تجمع عسكري متعدد الجنسيات من قوات فرنسية وأميركية تسنده 12 ألفاً من قوات الأمم المتحدة.
أمام زملائه من قادة البلدان الخمسة وجد محمد ولد الشيخ الغزواني الوقت الكافي لشرح الفوائد والمخاطر لاستراتيجيته في التعامل مع مخاطر الإرهاب، وهو الذي تدرج طويلاً في الاستخبارات العسكرية والقيادة الميدانية، مع إلمام كامل بعمق ثقافة دينية وقانونية جعلته يبني خطة المواجهة الناجعة، مازجاً العامل العسكري بمعارفه وكفاءاته المدنية الأخرى ذات المردود المباشر.
لكن السؤال المطروح اليوم على دول الساحل هو، ما هي حدود الحوار الممكن والمطلوب فيما بينها وبين الجماعات المسلحة، وما مخاطر الدعوة لحوار أو مفاوضات بين أطراف سيادية تنتمي لدول وطنية مع أخرى خارجة على القانون، وما هي المسافة بين الانتصار لحقوق الشعوب في الأمن والاستسلام لعنف الإرهاب، وهل تستطيع هذه الدول الوصول إلى ما حققته موريتانيا عندما أوقفت سهام الإرهاب عند حدودها، وطهرت صحراءها من خلاياه التي كانت تتكاثر، محاولة بسلوكها المستفز أن تكون «دولة داخل الدولة»؟
والآن، فإن شعوب دول الساحل تنتظر نتائج مداولات الرؤساء والخبراء المجتمعين في نواكشوط، ليس فقط من زاوية تقدير القادة لتحديات الموقف العسكري، وتحديد حجم المخاطر التي تهدد مثلث مالي والنيجر وبوركينا فاسو بالخصوص، لكن أيضاً بطبيعة المكاسب الآنية والمستقبلية الأخرى التي يمكن التأكيد عليها ضمن برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول المعنية.
وبغض النظر عن حجم حضور فرنسا في قمة نواكشوط، فإن فرنسا، ومنذ سنوات، تقدم نفسها كطرف معني، وبطريقة مباشرة، وتحاول أن تقوم بدورها التقليدي المألوف في غرب أفريقيا لدوافع وأسباب تاريخية، وهي اليوم تحاول عبر هذا الدور كسب رهانها المعلن على تعزيز التعاون في مواجهة المجموعات الإرهابية الناشطة، خصوصاً في القطاع الصحراوي الساحلي ومنطقة بحيرة تشاد.
لكن، في اللقاء الذي دعت إليه فرنسا مع شركائها الشهر الماضي «لم يستلزم الأمر أكثر من بضع ساعات استغرقتها القمة التي عقدت في مدينة بو (جنوب غربي فرنسا)، للتوصل إلى اتفاق مع الدول المشاركة، وهي: مالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد، وبوركينا فاسو، على توثيق التعاون العسكري في وجه تصاعد العمليات الإرهابية في المنطقة»، وذلك وفق تقرير إخباري شبه رسمي.
هذا التوافق في الرأي بين فرنسا وشركائها في دول الساحل عكسه البيان الختامي للقمة، الذي عبّر أيضاً عن رغبة دول الساحل في «استمرار الدور العسكري الفرنسي»، الذي يعود إلى عام 2014 في إطار العملية العسكرية المعروفة باسم «برخان». وتقتضي خطة «برخان» ضرورة «تركيز الجهد العسكري فوراً على المناطق الحدودية بين مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو»، بإمرة «القيادة المشتركة» لقوة «برخان» والقوات المشتركة لدول الساحل الأفريقي الخمس، ويتجاوز قوامها 4500 عنصر.
وكان من نتائج القمة التي انعقدت في بو، أيضاً، أن رفع الفرنسيون من عدد جنودهم في الساحل ليصل إلى 5100 جندي، بعد أن حصلت باريس على موقف رسمي واضح مؤيد لوجودها العسكري في الساحل، في ظل تنامي موقف شعبي مناهض لهذا الوجود، وخرجت مظاهرات في باماكو وواغادوغو - عاصمتي مالي وبوركينا فاسو - مطالبة برحيل القوة الفرنسية.
أمام هذا الموقف الشعبي الغاضب أصبح من الضروري ترميم صورة «المنقذ» الفرنسي والأوروبي، عبر زيادة المساحة المخصصة للدور التنموي في الحرب على الإرهاب في الساحل، خاصة أن أوضاع السكان في المناطق النائية والحدودية أوضاع مأساوية، في ظل غياب الدولة وانعدام مشاريع تنموية، في حين قال الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش إن حصيلة ضحايا الإرهاب في مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو «مثيرة للصدمة».
إن النجاح الذي حققه ماكرون في «قمة بو» كان نجاحاً محدوداً ونسبياً، ضمن فيه التأييد الرسمي من طرف حكومات دول الساحل للحرب التي تخوضها فرنسا، لكنه أغفل غياب التأييد الشعبي الذي تآكل على مدى سبع سنوات من الوجود العسكري الفرنسي في هذه المنطقة الفقيرة والمهملة من العالم.
وعلى هامش قمة نواكشوط انعقد اجتماع لتحالف الساحل، وهو تحالف دولي يهتم بالقضايا التنموية في المنطقة، أسسته فرنسا وألمانيا قبل سنوات عدة. ناقش التحالف في جمعيته العامة تقدم تنفيذ أربعين مشروعاً أعلنت عنها دول الساحل قبل أكثر من عام، تصل كلفتها 2.2 مليار يورو، تهدف إلى خلق تنمية محلية في المناطق الحدودية.
يبقى الرهان الفعلي أمام «قمة نواكشوط» هو إلى أي مدى ربطت بين استقرارها الأمني والاقتصادي؟ وكيف ستقنع حكومات المنطقة باعتماد ما ينبغي من خطط على طريق التطوير والتنمية، باعتبارها خطوات ضرورية ومرادفة للعمليات العسكرية لمكافحة الإرهاب؟ هذه مهمة أكثر صعوبة، خصوصاً أن هناك من يغذي المشاعر المناهضة لفرنسا في الساحل الأفريقي، ويشكل إرباكاً لسياسات كل بلد على حدة.
فرنسا في واقع الأمر تحتاج إلى كسب ثقة شعوب الساحل، وهي في وضع حرج. ولذا؛ فهي تنتقد بشدة مَن يسوّق «أوهاما»، أو «مواقف غير لائقة» ضدها، ومن يتبنى بوعي أو بغيره مواقف «تخدم مصالح المجموعات الإرهابية أو مصالح قوى أجنبية». وهي تريد في الوقت نفسه إبعاد الأوروبيين عن المنطقة، ولديها «أجندة خاصة بها وهي أجندة مرتزقة».
هذا الموقف الفرنسي، الذي يبدو منفعلاً، أو ربما مبالغاً فيه إلى حد ما، يشير بإصبع الاتهام، بشكل ضمني، إلى تلك المجموعات شبه العسكرية الروسية الموجودة في المنطقة، ولا سيما، في ظل التقارب المستجد بين روسيا ومالي وتوقيع اتفاق دفاعي بين البلدين، إضافة إلى التقارب مع النيجر وتشاد وغيرهما في المنطقة.
ولا تقتصر متاعب فرنسا في الساحل الأفريقي على الروس وحدهم، بل تواجه عقبة مع حلفائها الأميركيين بعد تلميح وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إلى احتمال تخفيض وجودها العسكري في الساحل الأفريقي والشرق الأوسط. وهو ما تناوله أيضاً الرئيس الفرنسي بتحذيره من أن الفشل في القضاء على الإرهاب في الساحل ينطوي على تهديد بانتشار الأعمال الإرهابية.
يبقى أن «مؤتمر نواكشوط» الذي يعقد في منعطف حاسم، مؤتمر مستقل بالتمام في رؤيته وتحليلاته، وفي طريقة معالجته للأولويات الأمنية والاقتصادية التي تهم دول الساحل الساعية إلى الاستقرار والتخلص من شرور الإرهاب. والرهان الذي يتوقعه الموريتانيون الآن من رئيسهم الجديد، والديناميكي الذي يتمتع بما يكفي من القدرات والخبرة لإقناع شركائه بمبادرات تنبثق من رؤيته الاستراتيجية، هو التأسيس «لقراءة موريتانية - أفريقية» لطبيعة المشاكل العالقة، ولنوعية الحلول التي تستحقها في العاجل والمؤجل. للعلم، تسلم ولد الشيخ الغزواني الرئاسة الدورية لمجموعة دول الساحل الخمس، في لحظة حاسمة من تاريخ المجموعة، يتصاعد خلالها التوتر الأمني في «المثلث الحدودي» بين مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو، لكن الرجل الذي قاد الاستراتيجية الأمنية الناجحة في موريتانيا، يقدم رؤية محلية لمعالجة أزمات الساحل، يراهن على التنمية والاقتصاد لحل المعضلة الأمنية... وللحلول الأخرى التي تستحقها في العاجل والمؤجل.
- كاتب متخصص في الشؤون الأفريقية