لحسن حداد
كاتب مغربي وهو أستاذ جامعي في التدبير والتواصل والعلوم السياسية والجيواستراتيجيا وإدارة الأعمال. خبير دولي في التنمية والاقتصاد والدراسات الاستراتيجية والثقافية والاجتماعية. نائب رئيس «المنظمة الدولية للتنمية». وزير السياحة الأسبق في الحكومة المغربية. عضو في مجلس المستشارين المغربي (الغرفة الثانية في البرلمان). رئيس اللجنة المشتركة للبرلمانين الأوروبي والمغربي.
TT

في الحاجة إلى مشروع مارشال جديد بمنطقة الساحل

أصبحت منطقة الساحل خلال السنوات الأخيرة مهددة بشكل صارخ بهجمات جماعات إرهابية وإجرامية منظمة وغير منظمة خلقت حالة رعب واسعة وسط السكان، وأدت إلى نزوح جماعي في بعض الدول، كما أنها أذكت فتيل صراعات إثنية هنا وهناك.
تكثف حكومات دول المنطقة من جهود التنسيق وتبادل المعلومات بمساعدة دول تتدخل عسكرياً بصفة مباشرة أو عبر الدعم اللوجستي والمالي والاستخباراتي ولكن الوضع ينذر بالانفلات مع توالي الهجمات خصوصاً في بوركينا فاسو والنيجر ومالي فضلاً عن شمال شرقي نيجيريا والكاميرون وتشاد، التي أنهكتها سنوات من هجمات «بوكو حرام» الدموية.
فالهجوم و«السيطرة على مركز أندلمان، والذي أدى إلى مقتل 49 جندياً مالياً في 1 نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، وتدمير مركز إناتيس بالنيجر، حيث قُتِل 71 جندياً في 17 ديسمبر (كانون الأول) من نفس السنة، يبين القدرة العسكرية الضاربة للجماعات الإرهابية» (جان ميشال ديبرا، أوليفيي لافوركاد وسيرغ ميخايلوف: «لا يمكن لقوة غربية أن تربح الحرب في الساحل»، صحيفة «لوموند» 13 يناير/ كانون الثاني).
من جانب آخر، عرفت بوركينا فاسو لوحدها العشرات من الهجمات الإرهابية في 2019 مما يبين قدرة كبيرة لدى الجماعات الإرهابية في التركيز والتخطيط وفي الضرب بسرعة وفي مناطق متفرقة.
وصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش ما وقع في مالي وبوركينا فاسو سنة 2019 بالصادم: «فقط من يناير إلى نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، بلغ عدد المدنيين الذين قضوا 1500، بينما نزح حوالي مليون شخص، مرتين أكثر من عام 2018، داخل حدود البلدان الخمسة المكونة لمنطقة الساحل» («بي بي سي نيوز»، 12 نوفمبر 2019). هدف غوتيريش هو دق ناقوس الخطر ودفع المجموعة الدولية للتحرك بسرعة لدعم الجهود العسكرية على أرض الواقع، وتقديم المعونة الإنسانية للنازحين من ديارهم، وعلى المدى البعيد سن مقاربات ناجعة للتخفيف من عوامل اللااستقرار على المستوى السياسي والتنموي والأمني.
حسب المعطيات التي ينتجها «مشروع معطيات مواقع وأحداث النزاعات المسلحة» (أكليد) فإن عدد ضحايا النزاعات الداخلية والهجمات الإرهابية ومظاهر اللاأمن في 2019 هو أكثر من عدد ضحايا نفس العوامل منذ سنة 2012 (منظمة الأغذية والزراعة العالمية - الفاو، «الساحل وأفريقيا الغربية في مواجهة اللاأمن والتحولات المناخية»). هذا دليل على أن الساحل يعرف حالياً موجة من العنف واللاأمن غير مسبوقة منذ عقود من الزمن.
ما يجعل الأمر أكثر تعقيداً هو الوضع الغذائي المتدهور نتيجة التغيرات المناخية والنزوح الجماعي والصراعات الإثنية وتلك التي تحدث فيما بين الرعاة الرُحَّل والفلاحين المستقرين. حسب منظمة الفاو دائماً، تبين التحليلات التي قامت بها المجموعة الإقليمية «لتجنب وتدبير الأزمات الغذائية» أن «ما بين يونيو (حزيران) وأغسطس (آب) 2019 كان حوالي 9.7 مليون شخص في حالة لا أمن غذائي» ويحتاجون للتدخل الإنساني العاجل. وحسب نفس المصدر، فإن مليوني طفل كذلك يعيشون على حافة النقص الحاد في الغذاء.
ماذا يفسر العنف في بلدان الساحل؟ وما هي العوامل التي جعلته يرتفع بشكل مهول في السنتين الأخيرتين؟ بعد انهيار «القاعدة» في العراق وأفغانستان نتيحة التدخل الأميركي (والأوروبي) فَرَّ كثير من أفرادها إلى بلدان الساحل خصوصاً جنوب الجزائر وشمال مالي والنيجر. هكذا تم تكوين مجموعات إرهابية مثل «القاعدة في المغرب الإسلامي» (2007) و«الحركة من أجل التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا» (2008-2011) و«أنصار الدين»، والتي تم تأسيسها من طرف إياد أغ غالي شقيق أمير «القاعدة في المغرب الإسلامي» سنة 2012.
بعد طردها من جنوب الجزائر سيطرت هذه الحركات على شمال مالي في نفس الوقت الذي ظهرت فيه حركات انفصالية مثل «الحركة الوطنية لتحرير الأزواد»، والتي تم تأسيسها في 2011.
بعد تحرير الشمال المالي من أيدي الجماعات المتطرفة بمساعدة فرنسية، وتوقيع «اتفاق الجزائر» بين الحكومة المالية وتنسيقية حركات تحرير الأزواد سنة 2015، انتقلت كثير من المجموعات الإرهابية جنوباً واختلطت بالسكان ونشطت في شتى أنواع الجريمة من تسهيل عمل مهربي المخدرات والبشر والسلاح، كما أنها غذت الصراعات الإثنية المرتبطة بالرعي وحياة الرُحَّل. وتمكنت كذلك من تجنيد الكثير من الشباب وإغرائهم بالمال و«الحرية» وجاذبية «الجهاد» المزعوم لكي يقوموا بعمليات إرهابية أو إجرامية أو هما معاً.
كلما صارت الجماعات ملتصقة بحياة مجموعات معينة وتقوت صفوفها بشباب حالم بإعطاء معنى لحياته زاد نشاطها واتسعت رقعة عملها.
اتساع رقعة الإرهاب في الساحل هي في غالبها تطور سوسيولوجي وكذا تحول في عمل المجموعات وقدرتها على الحركة دون إثارة انتباه الجنود النظاميين في مالي والنيجر، خصوصاً أن الساكنة لا تُبَلِّغ بوجود عناصر إرهابية خوفاً من انتقامها أو «تواطؤاً» لوجود مصالح مشتركة في بعض الحالات الأخرى.
في بوركينا فاسو أدى عقد من الصراع السياسي حول السلطة إلى إضعاف قدرة الدولة على التدخل مما جعل شمالها وشرقها عرضة لهجمات إرهابية متكررة على المدنيين والعسكريين وفي بعض الأحيان ضد المسيحيين (إذكاءً للصراع الديني). جاء ارتفاع عدد الهجمات نتيجة تحرك عناصر من «القاعدة» جنوباً وتدني قدرة الدولة المركزية على حماية حدودها ومواطنيها، نتيجة لعشر سنوات من اللااستقرار السياسي.
«بوكو حرام» والتي تحولت إلى العمل الإرهابي ابتداء من 2011 ما زالت قوية ونقلت عملياتها إلى الدول المطلة على بحيرة تشاد (الكاميرون والنيجر وتشاد بالإضافة إلى نيجيريا) رغم «القضاء عليها» تقنياً، حسب سلطات أبوجا.
لقد أبانت هذه الحركة قدرة قتالية كبيرة وعلى نزعة دموية متطرفة نشرت الرعب في أوساط السكان، وقدرة على تجنيد الأطفال قسراً، واختطاف الفتيات وإغراء الشباب المستاء من وضعه الاجتماعي ومن انسداد الآفاق أمامه.
منظرو الإرهاب يتحدثون عن «عوامل الجذب» أي وجود جماعات إرهابية وخطاب متطرف، و«عوامل الدفع» أي التحولات المناخية وفشل الحكومات وفساد النخب والحالة الاجتماعية للأسر والشباب، خصوصاً الذكور منهم. في بلدان الساحل نجد كل هذه العوامل مجتمعة. فالتحولات المناخية جعلت بحيرة تشاد تجِفُّ إلى عشرة في المائة مما كانت عليه قبل عقود، أما نهر النيجر فلم يعد مصدراً لعيش الكثير من السكان في مالي والنيجر وغيرها، وسنوات الجفاف المتعاقبة، خصوصاً في النيجر وحتى في مالي، قلصت من فرص العيش ذات المصدر الفلاحي وجعلت المزارعين والرعاة الرُحَّل في نزاع شبه يومي حول الماء وحق المرور، الذي قننه «إعلان أنجامينا» في مايو 2013 و«إعلان نواكشوط» في أكتوبر من نفس السنة).
أضف إلى هذا أن فساد النخب وتدني قدرة الإدارة على تدبير التنمية وغياب إشراك السكان وقلة الموارد جعلت الكثير من هذه البلدان شبه عاجزة عن اتخاذ المبادرة ومزاوجة العمل العسكري والاستخباراتي بحكامة متجددة وتدبير أنجع للتنمية.
وحتى الرد العسكري فإنه اعتمد بشكل كبير على الوجود الفرنسي المتمثل في عملية «بارخان» والتي أبانت عن محدوديتها رغم نجاحاتها. نعم، القوات الفرنسية هي التي هزمت المجموعات الإرهابية الموجودة في شمال مالي والنيجر فيما سمي «عملية سيرفال» (2013 - 2014) ولكن الواقع الآن أصبح أكثر تعقيداً مع تحول الجماعات إلى مجموعات متحركة مختلطة بالسكان تنشط من خلال الصراعات الإثنية وتقدم خدمات للجريمة المنظمة العابرة للقارات، خصوصاً مهربي المخدرات من أميركا اللاتينية عبر خليج غينيا ومروراً من الصحراء الكبرى. لهذا فتدخل القوات الفرنسية يبقى محدوداً في غياب معرفة دقيقة بالتحولات السوسيولوجية العميقة التي تعرفها منطقة الساحل والتداخل الديموغرافي والإثني المتحرك والمتحول بشكل دائم.
في مقال على صفحات جريدة «لوموند» (4 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019) قال الجنرال الفرنسي برونو كليمان-بولي إن فرنسا ستخسر المعركة في الساحل إن استمرت على نفس النهج وإن «الساحليين» هم وحدهم القادرون على حماية الساحل بدعم دولي وفرنسي.
وهذا غير ممكن دون تقوية دور التنسيق فيما بين قوات دول الساحل الخمس ودون عمل استخباراتي قوي بدعم أميركي وأوروبي، ودون القضاء على الفساد داخل القوات المسلحة لبعض هذه الدول، ودون تزويدها بالسلاح والعتاد والدعم اللوجيستي الكفيل بجعلها سريعة التنقل وتتدخل بقوة ونجاعة في مناطق نشاط الجماعات المتطرفة والإجرامية.
أخيراً، لا يمكن معالجة عوامل اللاأمن في الساحل دون تنمية مستدامة وحكامة جيدة وإشراك فعلي للمواطنين في مسلسل التنمية أي دون مخطط واسع، «مخطط مارشال جديد» خاص بالساحل يحدث تغييراً عميقاً في طريقة هندسة التنمية في البلدان الخمسة. يجب أن يعتمد هذا المخطط على: 1. تقوية مناعة السكان ضد الجفاف والفيضانات وزحف الرمال والتصحر؛ 2. دعم بروز نشاط فلاحي وسياحي وتجاري وثقافي مستدام يلعب فيه الشباب والنساء دوراً محورياً في قيادة التغيير؛ 3. ديمقراطية حقيقية مبنية على حكامة متجددة تتوخى الشفافية في التدبير العمومي وتعمل بمبدأ المسؤولية والمحاسبة؛ 4. دعم بروز نخب جديدة متشبعة بالعمل الجمعوي والتنموي وقيم التضامن والتآزر.
العنف في الساحل ليس قدراً محتوماً ولكن نتيجة عوامل خارجية وداخلية يمكن التحكم فيها عبر التمنيع ودعم الفاعلين وتقوية المؤسسات والتدشين لحلقات متتالية من التغيير الإيجابي تعود بالنفع على السكان وتساهم في استقرار المنطقة واستقرار شمال أفريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسط وأوروبا.