د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

الصين وشلل الاقتصاد العالمي

الصين في موقف لا تحسد عليه، فبعد سنتين من الصمود أمام الحرب الاقتصادية الأميركية، جاء وباء كورونا ليجعل هذه الحرب آخر همومها. ففي أيام من إجازة رأس السنة الصينية، قبع الصينيون في منازلهم خشية من الوباء، وانخفضت رحلات الطيران بشكل غير مسبوق، حيث أوضحت إحصائية أن ثلث الطيارات الصينية فقط في الجو، وبينت أخرى أن عدد المسافرين في الإجازة لهذا العام انخفض بنسبة 85 في المائة مقارنة بالعام الماضي. والحكومة الصينية في مأزق حقيقي، فهي بين أن تحافظ على سلامة شعبها بفرض القيود الصارمة على التنقلات والتجمعات، وبين أن تسيّر الأعمال التجارية الضخمة في البلاد دون تعطيلات. ولكن الحفاظ على هذا التوازن - بما بينته الأيام الماضية - يكاد يصل إلى درجة المستحيل. فحتى مع خبرة الصين في التعامل مع فيروس (سارس) عام 2002 إلا أن الزمن اختلف، وحجم الاقتصاد الصيني اليوم هو أربعة أضعاف ما كان عليه حينها. ولذلك فإن كثيرا من القطاعات في الصين في خطر حقيقي قد لا يكون في الوقت الحالي فحسب، بل على مستقبل القطاعات بأكمله.
فالقطاع اللوجيستي في الصين - على سبيل المثال - حساس للغاية بكون الصين مركزا لهذا القطاع في العالم، وهو أيضا قطاع حرج لكونه ممكّنا لنقل الفيروس لأي مكان في العالم. ولذلك فقد فرضت الصين حجرا لمدة 14 يوماً على سائقي الشاحنات بعد نقلهم للبضائع، وهي مدة طويلة للغاية في هذا القطاع تسببت في إبطاء حركة البضائع داخل الصين. وتضرر القطاع اللوجيستي بشكل حاد حتى وصل الحال إلى بعض شركات الشحن أن دخلت في دوامة الخسائر، لأول مرة منذ عام 1999! وانخفضت أسعار ناقلات النفط العملاقة بأكثر من 75 في المائة، لتصل تكلفتها اليومية إلى 23 ألف دولار بعد أن كانت 140 ألف دولار في السابق.
وكذلك تضرر القطاع الصناعي في الصين، فحتى مع توجيه الرئيس الصيني للمصانع بالبدء في الإنتاج بعد إجازة رأس السنة الصينية مع أخذ الاحتياطات بالأقنعة والمعقمات، إلا أن الشركات المنتجة للطاقة وضحت أن استهلاك الطاقة انخفض بنحو 43 في المائة، وهو دليل على أن الكثير من المصانع لم تعد للعمل بعد. هذا الانخفاض قد يسبب هبوطا في الطلب المحلي على النفط بنسبة 25 في المائة في فبراير (شباط)، وهو ما يشكل 3 في المائة من الطلب العالمي، ولذلك فإن تأثر أسواق النفط بما يحدث في الصين حاليا هو أمر غير مستغرب. وتوقف المصانع عن الإنتاج سوف يؤثر بشكل كبير على سلسلة التوريد في العالم، وخاصة في الصناعات الإلكترونية، فالصين أكبر مصدّر للإلكترونيات في العالم وتشكل صادراتها 30 في المائة من الصادرات العالمية في هذا القطاع، وهي نسبة كبيرة جدا تصل إلى أن تكون خمسة أضعاف إنتاج دول ضخمة مثل ألمانيا.
ومدينة (ووهان) - وهي أكبر بقعة لتفشي الفيروس في العالم - تعد من أكبر المدن في العالم في تصنيع قطع غيار وإكسسوارات السيارات. ولذلك فلا عجب أن تحذر شركة (فيات) للسيارات أنها قد تغلق مصنعها في أوروبا بعد أسابيع إذا ما استمرت الحالة في الصين كما هي الآن. ولا عجب كذلك أن تغلق شركة (هيونداي) الكورية مصنعها في كوريا. والمعاناة الاقتصادية الصينية قد تمتد لدول آسيا الأخرى، فثُلُث الواردات الصناعية في الدول الآسيوية مثل الفلبين وفيتنام وكوريا الجنوبية وإندونيسيا يأتي من الصين. والصين بحد ذاتها تشكل نسبة لا يستهان بها من الاقتصاد العالمي، فنحو 11 في المائة من الطلب العالمي يأتي من الصين، والاقتصاديون يتوقعون أن ينخفض النمو العالمي من 2.5 في المائة لهذا العام إلى 2.3 في المائة بسبب الوضع الحالي في الصين وهو الأقل منذ الأزمة المالية 2009 ويتوقع (دويتشه بنك) أن ينخفض النمو في الربع الأول إلى 1.5 في المائة مقابل 4 في المائة في نفس الربع العام الماضي، وأن يتباطأ الاقتصاد العالمي بنسبة نصف في المائة بسبب ما يحدث في الصين.
إن معاناة الصين اليوم، وعلى الرغم من كل ما فيها من سلبيات، فإنها أوضحت للعالم أهمية الصين في العالم، ومع كثرة انتقاد العالم الغربي للصين، إلا أن الوضع الراهن كشف أن العالم بأكمله لا يستطيع العيش من دون الصين، فهي مصنع العالم، ونقطة الأصل لسلاسل التوريد، وهي بعدد شعبها تشكل قوة عظمى في الطلب العالمي. ولا غرابة في أن يهب العالم لمساعدة الصين في تجاوز هذه الأزمة، ففي حال تفاقم هذه الأزمة فإن العالم بأسره سوف يتأثر اقتصاديا. وقد لا يستغرب لاحقا أن يستخدم بعض السياسيين هذه الأزمة، خاصة باللعب على وتر الأمن الوطني وعدم الاعتماد الاقتصادي على دولة واحدة مثل الصين.