عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

مفاجأة التعديل الوزاري البريطاني

أخبار التعديل الوزاري في الحكومة البريطانية طغت - صحافياً - على أخبار أكثر خطورة، كانتشار فيروس «كورونا» الصيني، أو العاصفة الثانية التي تضرب الجزر البريطانية في أقل من أسبوع.
السبب مفاجأة لم تكن في الحسبان: استقالة ثاني أهم وأقوى وزير، ساجد جافيد (جويد)، وزير المالية والاقتصاد، ظهر الخميس، رغم إلحاح وتوسل رئيس الوزراء بوريس جونسون. جافيد أول مسلم يتولى المنصب، والصدمة أنه من أكثر المحافظين انتماءً إلى - وتعبيراً عن - المدرسة الثاتشرية من النواحي الاجتماعية والسياسية والمالية.
جافيد هادئ صامت، لا يحب الثرثرة، بل العمل، بلا إضاعة للوقت في جدل وخلافات، لدرجة أنه لم يخض معي في تفاصيل المنصب منذ توليه الصيف الماضي، رغم صداقتنا القديمة. لكن المفاجأة كانت إعلانه سبب استقالته؛ رفض الاقتراح التنظيمي لرئيس الوزراء بمزج العمل السياسي لمستشاريه السياسيين في الخزانة والمالية مع فريق المستشارين السياسيين لرقم 10 داوننغ ستريت (مكتب رئيس الوزراء): «نظام عمل لا يقبل به أي وزير يحترم مهامه ومسؤولية وزارته المستقلة».
التصريح، كالمتوقع، أدى إلى تذبذب ردود فعل أسواق المال، لكنها عادت إلى الاستقرار في خلال ساعتين، وارتفع سعر الجنيه الإسترليني إلى أعلى مستوى له منذ عدة أشهر. وهذا مؤشر على أن أسواق المال ترى في التعديل الوزاري نوعاً من الاستقرار؛ إمساك رئيس الوزراء جونسون وفريقه بزمام الأمور، مع إضعاف سيطرة قسم المالية والخزانة الذي عادة ما يكبح رغبة الوزارات الأخرى في الإنفاق على مشاريع كبيرة. والإنفاق يعني رواجاً في أسواق المال، مما يفسر رد الفعل الإيجابي في البورصات.
علاقة الخزانة برقم 10 داوننغ ستريت مهمة وذات أثر بالغ في سعر الجنيه وفائدة الإقراض وأسعار الأسهم، وبالطبع السياسة العامة للبلاد: علاقة حب - كراهية، اتسمت أحياناً بالتنافس، كحال غوردون براون، وزير مالية حكومة بلير ما بين 1997 و2007، الذي كان يخفي عن بلير نفسه تفاصيل الميزانية حتى دقائق قبل إعلانها أمام مجلس العموم؛ أو علاقة تنسيق، بالعمل كفريق واحد من المستشارين، كنموذج جورج أوزبورن الذي كان وزير مالية في حكومتي ديفيد كاميرون ما بين 2010 و2016، وهو النسق الذي يسعى إليه الآن بوريس جونسون، ويبدو من رد فعل أسواق المال أنها تفضله.
وأذكر كيف كان المستشارون السياسيون في داوننغ ستريت، وفي الخزانة (في أثناء حكومات بلير)، يسربون المعلومات لنا - الصحافيين - في «بريفينغ» المقصود به نيل بعضهم من بعض بشكل تناقضي أثر على الأسواق، وهو ما لا يريد جونسون تكراره.
ولفهم العلاقة الفريدة بين رقمي 11 (مسكن وزير المالية) و10 داوننغ ستريت، العلاقة التي تجعل وزير المالية ثاني أهم وأقوى منصب سياسي في المملكة المتحدة، وتحدد رد فعل أسواق المال والدول الأخرى تجاه السياسة البريطانية، نعود لتعريف الدور ومهام المناصب، والأهم الخلفية التاريخية للمالية والخزانة، ودورهما في بناء الإمبراطورية في القرون الثلاثة الماضية.
المراجع السياسية البريطانية عند تعريفها اللغوي لمنصب وزير المالية والاقتصاد والتعاملات التجارية (chancellor of the exchequer) تحذر غير البريطانيين من اعتباره «وزير الخزانة» بمفهوم البلدان الأخرى. فالخزانة في الأخيرة موقعها السياسي ووزنها ودورها المالي الاقتصادي يختلف جذرياً ودستورياً عن دورها وتاريخها في بريطانيا.
وزير الخزانة، وهي وزارة تحتية في المالية، هو ستيفين باركلي (نائب دائرة شمال شرقي كمبريدج منذ 2010) الذي بحقيبة وزارية يحضر اجتماعات مجلس الوزراء الدورية (صبيحة كل ثلاثاء)، بينما وزير المالية والاقتصاد الذي خلف جويد هو نجم صاعد من أصل هندي، ريشي سوناك، ابن التاسعة والثلاثين (نائب دائرة ريشموند - مقاطعة يوركشير). ومن ألقاب الوظيفة أنه «إكس - أوفيسيو» (ex officio). وهي من اللاتينية، وتعني أن صلاحيات مركزه مستمدة من وظيفة أخرى يشغلها في حالته (مجلس اللورد الأعلى للخزانة، وبدوره يعود لعام 1421م، كممثل للتاج).
وصلاحية وزير المالية الممتدة من المجلس تجعله «شيخ الخزانة الثاني» (اللورد الثاني للخزانة). أما اللورد الأول للخزانة فهو رئيس الوزراء، مثلما تعلن اللافتة النحاسية المعلقة على الباب الأسود الشهير لـ10 داوننغ ستريت. واللافتة والمنصب أقدم من منصب رئيس الوزراء نفسه بخمسمائة عام، فمنصب رئيس الوزراء لم يظهر إلا في عام 1721م، باختراع السير هوراس والبول (1767-1745م)، إضافة إلى شياخته للخزانة.
فبريطانيا كقوة عالمية كانت المعاملات المالية والتجارة سر قدرتها في نشر إمبراطورية صنعتها التجارة التي دعمت بدورها القوة العسكرية.
وقسم المالية والتجارة الذي يترأسه سوناك منذ يوم الخميس يعود إلى القرن الثاني عشر في موازنة للسنة المالية (1129-1130م) في سجلات عهد الملك هنري الأول (1068-1135م).
وكان والبول، كمتصرف في الخزانة، المدير الفعلي للحكومة، فابتكر منصب رئيس الوزراء لتحديث التركيبة السياسية، وضمان الإجماع المشترك بين الحكومة والمعارضة على دعم المال والاقتصاد، كقاعدة لنظام حكم مستقر.
ومنصب وزير المالية، كوكيل للتاج باسمه الحالي (تشانصلور)، ظهر في 1221م، في عهد هنري الثالث (1216-1272م)، وشاغله الأول كان أسقف مدينة لندن، يوستيس الفوكونبيرغي. فلندن (المنطقة المعروفة اليوم بحي المال والبنوك) بدأت منذ قرون طويلة دورها كمحرك لاقتصاد البلاد.
ومهام وزير المالية (تشانصلور) هي رسم السياسة الاقتصادية، والإشراف على المعاملات التجارية، ومتابعة وتنفيذ السياسة المالية (تحصيل الضرائب والرسوم والدمغة، وإنفاقها جميعاً لصالح المشروع الاقتصادي)، ورسم وتنفيذ السياسات النقدية (دعم العملة النقدية وثباتها وسعر الفائدة والإقراض ومراقبة البنوك ومعاملات المؤسسات النقدية). ومن هنا، نفهم مدى قلق أو اطمئنان الأسواق والبورصات العالمية، والبعثات الأجنبية التي تنصح حكوماتها بشأن الاستثمار في بريطانيا والتجارة معها.
مثلاً، خطاب وزير المالية (تشانصلور) في العشاء السنوي لعمدة حي المال والبنوك (عمدة مدينة لندن، وليس المنصب الحديث العهد الذي يحتله صديق خان) يحدد ملامح السياسة المالية والاقتصادية الخارجية، وأولوية الدعوات للبعثات الدبلوماسية، وعميدها منذ أكثر من عقد هو السفير الكويتي خالد الدويسان الذي يجلس بجوار رئيس الوزراء ووزير المالية وعمدة لندن المالية.
استقالة جافيد لم تكن في خطة التعديل الوزاري، لكن لكل سحابة بطانة من الفضة، فتعيين سوناك، أول وزير مالية ينتمي لتيار «بريكست»، بمثابة إشارة للعالم الخارجي إلى إعادة الترتيب المالي الاقتصادي السياسي بشكل منفتح على العالم وراء حدود قيود التجارة والاستثمار التي فرضتها بروكسل لثلاثة عقود.