سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

من بيروت إلى تورونتو

لا مشكلة في لبنان أكبر من معضلة الكهرباء. يبدو الأمر مزحة سمجة في زمن كل شيء فيه صالح لتوليد الطاقة، من هدير الماء إلى عصف الرياح، وحتى النفايات النتنة. وهذا لم يعد سراً. ومشكلة التخلف متأتية من سوء نية المسؤولين أو من جهلهم، ويُخشى أن يكون لبنان قد جمع الاثنين معاً. أكثر من ذلك يسخر الكاتب الأميركي المعروف برؤيته المستقبلية للاقتصاد العالمي جيريمي رفكن، من الدول الأوروبية التي لا تزال تفكر في محطات نووية للتوليد، معتبراً أن هذه الطرق عفّى عليها الزمن، وستصل بأصحابها إلى طريق مسدود. ويستغرب أن يرى بلاده لا تزال تمدد أنابيب الغاز إلى المنازل، فيما العالم ذاهب إلى توجه مختلف تماماً، حيث سيتمكن في وقت قريب للغاية، كل مبنى حديث من توليد طاقته الخاصة به، من مصادر طبيعية بحتة، لا تلوث فيها ولا أذى. وهذا مطبَّق وليس مجرد حلم خنفشاري. لكن الجديد أن شبكة جديدة تضاف إلى الشبكات السابقة من إنترنت ومياه ومجارير، بحيث يكون بمقدورها أن تؤمّن تبادل الطاقة بين المباني وتسد واحدها ما ينقص الآخر، بمحض برمجة آلية ذكية.
بالطبع لبنان لا يزال يبحث في خطة الكهرباء التقليدية المأمولة منذ ثلاثين سنة. والخلاف قائم، بين أفذاذ السلطة، إن كانت المحطات الكبرى هي الأجدى أو الصغيرة اللامركزية، وأي نوع من الوقود هو الأفضل، فيما تقضم هذه الكهرباء المفقودة المليارات الطائلة من الميزانيات المهلهلة. بات معروفاً أن نصف الدين العام الذي أوصل لبنان إلى حافة الإفلاس أُهدر على توليد التيار. ضربٌ من الجنون الذي لا يصدَّق. لهذا يُفهم أن يقول المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان كوبيتش، إنه «من المعيب أن تبقى الكهرباء في لبنان على ما هي عليه». وما لم يقله الرجل إنه من المفجع أن تأكل هذه الأثمان الباهظة قوت الناس وأرزاقهم، فيما أصغر منزل، في قرية نائية، صار بمقدوره تسخين الماء على الطاقة الشمسية، دون منّة الدولة.
كنا نتحدث عن مخاطر «الفجوة الرقمية»، وقريباً سنرى مأساة «الفجوة المعيشية»، بحيث تصبح المسافة بين ما يكابده أهالي بيروت وما يتنعم به سكان تورونتو، شبيهة بالفرق الذي يصدم المخلوقات البشرية البدائية في أفلام الخيال العلمي حين يتعرفون على سكان الكواكب الأخرى.
الخلافات على أشدّها في العاصمة الاقتصادية الكندية تورونتو، التي شهدت صعوداً لافتاً، على شروط بناء منطقة مستقبلية نموذجية، بمساحة خمسة هكتارات، كل ما فيها ذكي ويعمل على البيانات الرقمية. وبينما يعاني سكان مدن كثيرة من أجل الحصول على الماء وتأمين أصغر الخدمات، يواجه أهالي تورونتو بشراسة، بناء هذه التحفة التكنولوجية، التي تعهدتها شركة شقيقة لـ«غوغل» تريدها مشتهى للعيش: إشارات سير ذكية تتكيف مع حركة المرور، شبكة روبوتات تحت الأرض توزع الطرود، تؤمّن «الديلفري» وتدير عملية جمع النفايات، تسخين ذاتي تبعاً للحاجة، وطرقات مدفّأة لراحة المشاة وراكبي الدراجات... هذا غيض من فيض المغريات التي تقدمها شركة «سيد ووك لابس» ومع ذلك تم تجميد المشروع مؤقتاً، لأن الأهالي مشغولو البال بما ستفعله «غوغل»، الأخت الكبرى للشركة صاحبة المشروع الطموح، ببياناتهم الشخصية بعد أن تصبح مكشوفة وبين أيادٍ قد لا تكون أمينة، وأقله قد تصطادهم بالإعلانات وتستهدفهم بحملات تستغلهم تجارياً، وربما سياسياً، مَن يدري؟
وعدتْ الشركة من باب الإغراء، بتوفير 44 ألف فرصة عمل، وضخ 14 مليار دولار سنوياً في اقتصاد تورونتو، وبناء أربعة آلاف وحدة سكنية خشبية تبيعها بسعر مغرٍ للغاية، والكثير من المباني الأخرى لرقيقي الحال، وتسيير خط ترام لخدمة مدينة المستقبل، ولا يزال التردد سيد الموقف، وهناك من يتهم مسؤولين بصفقات، وألاعيب قد لا تكون نظيفة.
هذا للقول إن الهموم من بيروت إلى تورونتو باتت شاسعة إلى حد يصعب ردمه بسهولة. الشُّقة تزداد، بين من يحاول أن يحل مشكلات السنوات الثلاثين المقبلة، عندما ترتفع درجات الحرارة، وتصبح الأغذية المركبة في المصانع ضرورة لسد رمق المليارات، والتعديل الجيني في متناول المختبرات... ومن يتلهّى بتضييع الوقت والمال والطاقة البشرية قبل الشمسية. مع ذلك لا شيء مستحيلاً. فقد وصل الخليوي إلى مناطق نائية في لبنان قبل التليفون الأرضي، وخدمات الجيل الثالث قبل تمديدات الإنترنت السلكية، ودخل كثير من الشبان على الشبكة العنكبوتية من تليفوناتهم المحمولة قبل أن يتعرفوا على الكومبيوتر.
بمقدور اللبنانيين اليوم، القفز فوق المراحل المحروقة. التخلي عن الأفكار التقليدية، النظر إلى المستقبل بشجاعة. فتح الباب أمام المشاريع الشابة، استنهاض المواطنين المحلقين في ميادينهم في الخارج، الاستماع لهم، تشريع الأبواب أمام مشاريعهم. هؤلاء يتحينون الفرصة لخدمة بلدهم. البنى القديمة كلها منهارة ومتجاوزة. البلد الصغير يتهيأ لإعادة هيكلة نفسه، لتكن الخطة طموحة ومتماشية مع ما باتت تعرف بـ«الثورة الصناعية الثالثة»، ويقال إنها تشبه الانتقال من زمن الحصان إلى عصر السيارة. المال لم يكن يوماً مشكلة. الفكرة الذكية كثرٌ من يريدون تبنيها واستثمارها. الفشل وحده يأكل الأرصدة والثروات. توروتنو الناجحة تقدَّم لها المشاريع على طبق من ذهب وتتدلل، يغدَق عليها بالمغريات وتتمنّع. بيروت بمقدورها أن تمارس غوايتها على أصحاب رؤوس الأموال إنْ هي قدمت تصوراً عصرياً، وسعت إليه بإخلاص. أسهل الوصفات الاستسلام لليأس، وللبنانيين من العزيمة والإقبال على الحياة ما يمكن أن يفتح لهم كوّة في الجدار المظلم. الذكاء وحده يمكن أن يحوّل الألم إلى فرصة، وينقذ البلد الصغير من أن يتحول إلى مأوى حزين وكالح للمسنين.