خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

ساعة «أبل»... والتراث

حين تلقيت أول ساعة رقمية في منتصف الثمانينات، كانت عجيبة بين الأصدقاء. لم أعد فقط قادراً على إخبارهم الوقت بالساعة والدقيقة، وحتى الثانية، بل بكسور الثانية. واو... كسور الثانية! وفي يدي «ستوب ووتش» قادر على حساب مدة سباق العدو بكسر الثانية: من الآن، كل يوم سنُجري سباقاً.
اكتفينا نحن الصغار، سعداء، بدقة الساعات الرقمية. وظل الكبار فخورين بنوعية ما يحملونه في معاصمهم من الساعات السويسرية. وسرعان ما كنا نقفز نحن أيضاً إلى صفوف الساعات السويسرية عند سن معينة، حين اكتشفنا أن الستوب ووتش أو كسور الثانية لم تكن بتلك الأهمية في حياتنا اليومية. وأدركنا المعادلة. كل الساعات تخبر الوقت. الرقمية والسويسرية تخبر الوقت بدقة. السويسرية تخبر الوقت وشيئاً آخر مهماً... المكانة الاجتماعية. هذا الاكتشاف ساعد الساعات السويسرية على تخطي أول تحدٍّ ضخم للصناعة.
لكن ظهور «سمارت ووتش» كان نقلة في الزمن، لا الوقت.
ساعة «أبل»، وفي السوق ساعات منافسة كثيرة، خرجت بشعار: ساعة لا تكتفي بإخبارك عن الوقت. صارت الساعات «سمارت» تفعل ما أبهرتنا به ساعة جميس بوند حتى قبيل الألفية الثالثة، ما كنا نعدّه خيالاً علمياً. مساعد شخصي يساعدك على تنظيم يومك بين العمل والرياضة والحركة والوقوف والتنفس، ويسجل ملاحظاتك. ومساعد طبي، يقيس النبض والسعرات الحرارية، يُجري لك رسم قلب، وينبهك إلى التغير المستحق للمراجعة الطبية في نبضك. قبل أن تنام يمكن للساعة أن تقرأ لك إيميلاتك ورسائلك، وكتاباً قبل النوم.
والنتيجة يحملها هذا الخبر الصغير، ساعة «أبل» باعت العام المنصرم 31 مليون وحدة، في حين باع قطاع الساعات السويسري كله أقل من هذا العدد بعشرة ملايين. مبيعات «أبل» زادت بنسبة 36%، في مقابل انخفاض قدره 13% في مبيعات قطاع الساعات السويسري.
التحدي الذي استطاعت الساعات السويسرية تجاوزه في بداية الثمانينات لن تستطيع تجاوزه الآن، لأنه صار تحدياً في الزمن. فيما يتوقعه المرء من الأدوات المعاصرة. وفيما يلزمه لكي يعيش هذه الحياة المعاصرة.
هكذا أيضاً كل سلوكنا البشري، لكننا لا نرصده وندرك اختلافاته، ولا نحن قادرون على منحه قيمة مادية يمكن القياس إليها، كما يفعل أهل البزنس مع الساعات.
في سلوكنا ساعات رقمية تنتمي إلى بداية الثمانينات، إنْ أخبرتنا بالوقت لم تخبرنا بالزمن. من سلوكنا ساعات سويسرية. ربما يدل على مكانة اجتماعية أصيلة. لكنه لا يوفي بالغرض، ولا يزيد الإنتاجية. ربما يصلح لطقوس عائلية أو اجتماعية، لكن في الحياة اليومية نحتاج إلى إنجاز. في سلوكنا أيضاً ما عاصر الساعة الرملية، والمزولة.
شعاراتنا السياسية أيضاً تجاوزها الزمن. بعضها سبق الساعات الرقمية بكثير، وبعضها لم يدخل عصر ساعات اليد من أساسه. زمن مركزية الشرق الأوسط في دائرة اهتمام السياسة العالمية انتهى. قد يعود. لكن ليس الآن. لقد صارت لدى العالم مشكلاته التي تشغل ناخبيه. أميركا تنظر إلى شرق آسيا بتوجس. الاتحاد الأوروبي فقد بريطانيا. الناتو يواجه تآكلاً بعد توسع. الهند وباكستان، الكوريتان، روسيا وأوكرانيا وشبه جزيرة القرم. كل هذه قضايا كبرى، لها معطيات جديدة، في زمن سياسي جديد.
الكفر بهذا الواقع الزماني وإنكاره لا يضرّانه شيئاً. كما لا يضرّه من ضل عنه. الضال هو المتضرر. الزمن يلتفت إلى من التفتوا إليه واهتدوا بإيقاعه. والتاريخ قاس دائماً على مستوى الأسبق، لا على مستوى المتأخر.
ليس القياس على مستوى الأسبق شهادة فقط لصالح الجودة، والمعاصرة، وطول النفس، ليس شهادة فقط على ما مضى، بل هو قياس لصالح الأفق، لصالح المستقبل. الأفق مفتوح عند متقدمي الصفوف. المتأخرون محجوزون بزحام من حولهم. الأفق المفتوح جائزة على مواجهة المجهول، واحتمال الربح والخسارة، لمن كانوا من الشجاعة بحيث واجهوه ولم يتشبثوا بالقديم.
نحتاج إلى نظرة عميقة إلى تراثنا القيمي. القيم ليست محفورة على ألواح البابليين، لا جففها الزمان، ولا جمّدها، ولا عجز ولن يعجز عن تغييرها. القيم منتج بشري، تنتجه الجماعة البشرية وتتوافق عليه وتلائم به زمنها. القيم ليست كلمة إيجابية، ولا سلبية. القيم مجرد لفظ يشير إلى مجموعة المعايير التي تتبناها أمة في قياس سلوكها. قد تكون المعايير جيدة، قد تكون مزيفة، قد تكون مغشوشة، قد تكون دقيقة، قد تكون ناجعة، قد تكون قديمة لن تجد التقدير إلا في متحف، قد تكون معطلة لا تؤدي الغرض.
مَن يحكم؟
ملاءمة الزمن... هو أكثر من مجرد الوقت.