نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

«صفقة القرن» تخاطب مرحلة ما بعد عباس

خطاب الرئيس الفلسطيني الموجّه إلى الفلسطينيين والعرب والعالم، يقطع باستحالة موافقته على «صفقة القرن»، لذا فإن أي جهد يُبذل لثني الرئيس عباس عن موقفه هذا يبدو عديم الجدوى، فالرجل حرق كل سفن التراجع وقيد نفسه في أمر الرفض بشروط كلها مستحيلة، بما في ذلك اعتباره مجرد التفاوض حول الصفقة خيانة لا يقبل أن يتورط فيها، واستخدم مصطلحاً كان مفضلاً عند كل من سبقوه من الزعماء الفلسطينيين «أنا لا أقبل على تاريخي أن أُسجل خائناً».
اليأس الأميركي الذي يغذّيه اليمين الإسرائيلي بتصوير عباس على أنه ليس شريكاً في تسوية بل عدو وجودي لدولة اليهود، والذي توصل إليه طرفا «صفقة القرن» حتى قبل إعلانها، أثّر في صياغة بنود الصفقة وتوقيتها، وذلك وفق مبدأ يقول ما دام الزعيم التاريخي لـ«فتح» والقائد النافذ في منظمة التحرير والسلطة يرفض الصفقة بصورة مطلقة، فلنخاطب إذاً مرحلة ما بعده التي ستنتج فترة ربما تكون طويلة ولكن مؤثرة في بلورة زعيم فلسطيني يقدر على التعاون أو التعايش مع التطبيق الإسرائيلي الأحادي للصفقة والذي بدأ جزء منه قبل إعلانها وسيبدأ الجزء المتبقي بعد الانتخابات الثالثة، إما دفعة واحدة وإما بتدرجٍ الغرض منه تقليل ردود الفعل أو تجزئتها.
قبل رحيله الذي لا يعلمه متى غير الباري عز وجل، وضع عباس حواجز مرتفعة بين من سيخلفه وبين التعاون أو التعايش مع الصفقة، ذلك أن الرأي العام الفلسطيني الذي يُفترض أن ينتج الزعماء عبر الانتخابات عُبّئ بصورة حاسمة على مبدأ أن قبول الصفقة والتعاون في تنفيذها وحتى التعايش معها سيلحق بمن يفعل ذلك تهمة الخيانة العظمى لثوابت الحقوق الفلسطينية، والتفريط في كل المنجزات الوطنية التي حققتها مسيرة الشعب والثورة على مدى عقود.
المأزق الفعلي سيظهر بأوضح صوره في مرحلة ما بعد عباس وسيكون مرهقاً للفلسطينيين وبذات القدر للإسرائيليين ومربكاً لكل الأطراف المعنية بالحالة الفلسطينية الإسرائيلية.
بالنسبة إلى الفلسطينيين فإن أي قيادة أو قائد سيخلف عباس سيرث وضعاً شائكاً قوامه ابتعاد فرص تسوية سياسية يمكن للفلسطينيين هضمها والتعايش معها، وسيرث كذلك وضعاً داخلياً فلسطينياً هو في أسوأ حالاته وعنوانه وليس كل مضمونه الانقسام الموشك على التحول إلى انفصال، وسيرث تغولاً إسرائيلياً أميركياً يعمل على شعار يقول إن حل القضية الفلسطينية يكون بتصفيتها، وسيرث كذلك تراجعاً فادحاً في القدرات العربية على فرض حلول متوازنة أو توفير مقومات فعلية للفلسطينيين لبلوغ هذه الحلول.
على الصعيد الإسرائيلي فإن «صفقة القرن» والرفض الفلسطيني لها والرهان الأميركي الإسرائيلي على تطبيقها في مرحلة ما بعد عباس لن تكون بمثابة طريق مفروش بالحرير لفرض قوة الأمر الواقع الاحتلالي على ملايين الفلسطينيين، الذين سيعيشون داخل الجسم الجديد، الذي ستنتجه «صفقة القرن»، ذلك أن الدولة العبرية التي بدأت أعراض عجزها عن تحقيق الأحلام الصهيونية بتكريس دولة يهودية خالصة، سيتضاعف عجزها حين تجد نفسها أمام ملايين الفلسطينيين، الذين لن يقبلوا الخرائط الجديدة المفروضة عليهم، وحتى أقوى المؤسسات البحثية وأهمها في إسرائيل لا تزال تقف عاجزة عن قراءة التطورات التي ستنجم عن التطبيق الأحادي للصفقة.
كثيرون في إسرائيل يخافون من مضاعفات الدلال الأميركي المبالغ فيه لليمين الإسرائيلي، ما يجعل الدولة العبرية غير قادرة على احتواء ما سينتج عن الملايين الفلسطينية التي ستظل مغلوبة على أمرها وملحقاً بائساً لإسرائيل وجشعها الذي لا يتوقف عن قضم الحقوق الفلسطينية وإلغائها، وكثيرون في إسرائيل يتخوفون من «صفقة القرن» من خلال قراءتهم لمآل «أوسلو»، ذلك أن «أوسلو» وُلدت في حضن إجماع إقليمي ودولي وأغلبية إسرائيلية فلسطينية، ورغم ذلك سقطت، فما الذي يدعو إلى الاعتقاد بأن الصفقة الأسوأ كثيراً من حيث المولد والمضمون والآليات والخرائط لن تلقى مصيراً أسوأ بكثير من مصير «أوسلو»؟
اليمين الإسرائيلي وفي مركزه، وليس فقط على رأسه، نتنياهو وبينيت، يلتزم معادلة غبية ثبت بطلانها على أرض الواقع، وهي أن كل ما يُلحق الأذى بالفلسطينيين ويقوّض حقوقهم يُسجّل مزايا لمصلحة إسرائيل.
الحقيقة المثبتة في كل الوقائع والأزمان هي أن الأذى الذي يلحق بالفلسطينيين لا بد أن يُنتج أذى تلقائياً يلحق بإسرائيل، هكذا قالت وقائع ثلاثة أرباع قرن مضت شهدت كل أنواع التفوق الإسرائيلي العسكري والاقتصادي والتقني على الفلسطينيين، ومعها كل أشكال الاحتلال والسيطرة لم تُنتج شعوراً إسرائيلياً بالأمن والأمان، والذين يعترفون بذلك سراً وعلناً في إسرائيل كثيرون بل ويتزايدون.
في آخر استطلاع رأي نُشر في إسرائيل ثبت أن غالبية الإسرائيليين يحبذون انفصالاً تاماً عن الفلسطينيين، وأكثر ما في «صفقة القرن» من حقائق لا تقبل الشك هي أنها لا توفر هذا الانفصال.