عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

حالة طوارئ؟

«ضع الحصان قبل العربة»، مثل إنجليزي قديم تذكرته هذا الأسبوع.
القول من النوع الذي يعرف بـ«ذاتي التوضيح» (self - explanatory) أي ترتيب أولوياتك، مَن يجر مَن؟
تذكرت الحكمة الإنجليزية بسبب فيروس كورونا الصيني. وكفيروس «سارز» و«وحمى الخنازير» قبله في مطلع القرن، قفز، في قول الفيرولوجيين، من دائرة مرض الحيوان إلى الإنسان. ما إمكانية انتقاله من إنسان إلى آخر، بلا معرفة طبية حقيقية لوسيلة العدوى: التنفس أو بالتصافح أو لمس آثار رطوبة إنسانية على جماد؟
وحسبما أدلى وزير الصحة البريطاني، ماثيو هانكوك، للجنة مجلس العموم في وستمنستر الخميس، وللجنة مجلس الوزراء للأزمات الحرجة، في اجتماعها الطارئ صباح الجمعة في 10 داوننغ ستريت بإدارة رئيس الوزراء بوريس جونسون، فإن العدوى انتقلت للإنسان أولاً في سوق للحيوانات البرية والطيور والأسماك كأطعمة في مدينة هيوان الصينية. ولأن الصينيين ولعون باستهلاك ما لم تعتده الثقافات الأخرى (وسأجنب القراء قائمة قد تدفع معظمهم إلى تجنب الأطباق الآسيوية بل والطعام لعدة أيام)، فقد اتخذ المسؤولون الصينيون إجراءات صارمة، لا تجرؤ حكومات منتخبة في الأنظمة البرلمانية على اتخاذها. وضعت المدينة التي يماثل عدد سكانها لندن الكبرى (أحد عشر مليوناً) تحت ما يعرف بإغلاق كامل؛ منع السفر من وإلى المدينة أو التنقل داخل شوارعها وإغلاق المدارس وأماكن التجمعات، إلى جانب اثنتي عشرة بلدة أخرى مجموع سكانها سبعة وثلاثون مليوناً في منطقة تماثل مساحة إيران، بعد تسجيل 26 حالة وفاة بالفيروس (حتى الجمعة).
ورغم أن الصين لم تحاول إخفاء الأمر بفرض رقابة على الوسائل الصحافية كما تصرفت أثناء عدوى فيروس سارز قبل 17 عاماً، بل تشارك منظمة الصحة العالمية المعلومات بشكل آني، ورغم الإجراءات التي اتخذت حياله، وهي حسب مثل إنجليزي آخر، «كإغلاق باب الإصطبل بعد هروب الجياد»، فإن الفيروس انتقل وظهرت الأعراض على العشرات، الذين عزلوا في المستشفيات، في ثمانية بلدان أخرى حول العالم.
وعندما بدأت مطارات العالم مراقبة القادمين من هيوان، بمقياس الحرارة الطبي (الترمومتر) عند بوابة الهبوط، كما كانت الحال عند وباء سارز، فإن الأطباء اكتشفوا أن ارتفاع الحرارة، ضمن الأعراض التي تشبه أعراض الإنفلونزا والبرد، لا تظهر إلا بعد أسبوع أو أسبوعين بينما يحمل الشخص الفيروس وقد ينقله للآخرين.
لماذا تذكرت القول الإنجليزي حول الأولويات؟
السبب موقف منظمة الصحة العالمية، التي ترفض استخدام تعبير «حالة طوارئ صحية» رغم وجود دليلين؛ الأول من المنظمة نفسها، حيث تقدر نقل العدوى من كل مصاب بالفيروس بما بين واحد ونصف إلى اثنين ونصف للآخرين (أي أن مصابين ينقلان العدوى إلى بين ثلاثة وسبعة أشخاص). وزارة الصحة البريطانية تبحث عن ألفي شخص قدموا من هيوان الصينية في الأيام العشرة الماضية، لإخضاعهم لفحوصات طبية. المعامل البيولوجية البريطانية ابتكرت أكثر اختبارات الفحص دقة في العالم لتحديد الإصابة بالفيروس. والأطباء يحذرون من أن كورونا أخطر من فيروس سارز، لسرعة تطور الإصابة به إلى الالتهاب الرئوي قبل ظهور الأعراض كاملة.
ولأني لست طبيباً، فلن أنتقد المنظمة العالمية المتخمة بالأخصائيين. لكن من حقي التساؤل، كصحافي ومؤلف ومؤرخ، اللغة والكلمات من أدواتي اليومية: لماذا لا تعتبر منظمة مسؤولة عن صحة العالم انتشار فيروس خطير يؤدي إلى الوفاة «طوارئ»، بينما لجنة، تابعة أيضاً للأمم المتحدة، أسرفت في استخدام تعبير «حالة طوارئ حرجة» لوصف التغيير المناخي في فيضان من التحذيرات أصابت أطفال المدارس بالرعب الهستيري؟
والسؤال المنطقي الذي يتبعه، كعربة تتبع الحصان: هل ركز العالم ومؤسساته وحكوماته كل الانتباه والطاقة والإمكانات على «الخطر» الآيديولوجي (في نظر الذين يفكرون بعقول باردة هادئة) المناخي، بشكل جعل المجتمع الدولي بكل فروعه وأشكاله، يهمل ولا يخصص الإمكانات لأولويات تؤدي إلى حالات طوارئ بالفعل كأخطار تهدد الحياة والمال والممتلكات كالصحة وسلامة المواصلات والأمن العام والحرائق ومثلها؟
وأعتقد أن السؤال مشروع، لأن الأمر متروك للصين وحدها، في غياب قرار عالمي منسق والاتفاق حول تعريف ما هي بالفعل «حالة الطوارئ الحرجة»؟
مهما أطلق نذراء الشؤم ومنجمو الكوارث التحذيرات (مع الأخذ في الاعتبار المصالح المالية والاستثمارية التي تتجاوز البلايين المرتبطة بمشاريع إلغاء استخدام محركات الاحتراق الداخلي وأجهزة التدفئة المركزية بالكربون واستبدال مصادر طاقة أخرى بها) فلنقارن فعلياً بين ما يحذر منه «البيئيون» و«التغيرمناخيون» من «حالة طوارئ» وبين أمراض أو، لا قدر الله، أوبئة تصيب بني الإنسان؟
التاريخ، خصوصاً الوثائق الطبية، والتكنولوجيا الحديثة التي تفحص بقايا العظام الإنسانية بدقة (بما فيها المومياوات المصرية المحنطة قبل أربعين قرناً) تقدم أدلة علمية أكثر إقناعاً من تكهنات التغيرمناخيين بمعطيات افتراضية.
الذي يشكل حالة «طوارئ» تهدد بالفناء، أوبئة مفاجئة لم يكتشف الطب الوقائي أمصال وقاية منها، أو قد تكون جديدة لا دواء شافياً لها.
النماذج من التاريخ هي الطاعون (الموت الأسود) الذي أفنى نصف سكان أوروبا في القرن الرابع عشر. أربعة قرون قبل أن ينكب مفتش الأغذية الهولندي أنطوني فان ليوفينهويك (1632 - 1723) على ميكروسكوبه ليكتشف الميكروبات كمسبب للأمراض التي كان مصدرها غامضاً للناس معتقدين أنها لعنة مجهولة.
أو الإنفلونزا الإسبانية التي أهلكت، في 1919، ملايين يفوقون عدد ضحايا الحرب العظمى (العالمية الأولى 1914 - 1918) وكان الموتى يدفنون في نعوش من الرصاص مع الجير الحي لمنع انتقال العدوى لحفاري القبور.
الطاعون، والإنفلونزا الإسبانية، وأمراض وبائية أخرى كالتيفود، والجدري والسعال الديكي، والحصبة الألمانية، والدفتريا، والسل، وشلل الأطفال وغيرها، اكتشف العلم الحديث أمصالاً لها خلصت بعض مناطق العالم من كثيرها كلياً، ببرامج تطعيم منذ أربعينات القرن الماضي.
المفارقة أن متظاهري ومحتجي «تمرد الفناء»، والغالبية الساحقة منهم من أبناء الطبقات العليا الميسورة، هم أنفسهم من بدأوا، في العقد الأخير، حركة تمرد أخرى، برفض تطعيم أطفالهم ضد الأمراض المعدية، وبعضها وبائي.
وفي انتظار ما تسفر عنه تعليمات منظمة الصحة العالمية في الأيام المقبلة، هل يعيد أصحاب حالة الطوارئ المناخية النظر في تعريف «الطوارئ» فيطعمون أطفالهم ضد الأمراض، خصوصاً أن حالات وفيات الإصابة بفيروس كورونا الصيني كانت كلها بين أشخاص يعانون من أمراض أخرى، بينما يعالج الأصحاء عند التقاط الفيروس من إنفلونزا لم تتحول إلى التهاب رئوي؟