عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

«مؤامرة» الإيبولا

لعل أخطر ما يواجه العالم اليوم هو وباء الإيبولا، الذي أجهز على الآلاف في غرب أفريقيا، وأخذ الفيروس يجد طريقه إلى خارج المنطقة ولا يفرق بين الأجناس.
وهنا تطل نظرية المؤامرة برأسها.
نظرية المؤامرة أصبحت القاعدة الذهنية لتناول البعض منا (خاصة المثقفين صانعي الرأي العام في بلدانهم) لظواهر سياسية أو اجتماعية أو مشاكل اقتصادية (ويشاركهم الأفارقة ذلك). أهو المقابل البيوفكري أو البيولورمجي (البرمجة البيولوجية) للعقل البشري أو جهاز التشغيل الذهني في هذه البلدان؟
هل هي البرمجة الذهنية في المدارس منذ نعومة الأظفار؟
فبدلا من تحليل العقل للمعلومات المتاحة لديه أو التي يجمعها عندما يصادف مشكلة ما، ثم البحث عن معلومات مكملة أو مفسرة في اتجاه منظم Systematic Process نحو الحل، تجده إما يتجه إلى إلقاء مرساة الجهد في مرفأ المؤامرة ويصبح «الآخرون» سواء الاستعمار أو الموساد أو الـ«سي آي إيه» هم المسؤولين وهم مصدر المشكلة؛ أو يطلب من الدولة أو الزعيم الحل الجاهز.
مشاركتي في عدة مقابلات تلفزيونية، حول وباء الإيبولا، في شبكات عربية وأخرى إنجليزية دفعتني لملاحظة فارق التفكير بين الذهنيتين العربية - الأفريقية، والأخرى الغربية.
مشاركة متفرجين برسائل الإيميل و«تويتر» والتليفون عكست ذهنية رأي عام (بلغت نسبة الذين يفكرون بعقلية المؤامرة نحو 70 في المائة، مقابل أقل من 10 في المائة يجادلون بحثا عن حل، والباقي كانوا محايدين لم يقولوا إنها مؤامرة لكن يطالبون الدولة بإيجاد حلول دون مساهمة منهم).
في الخدمة العربية لشبكة تلفزيونية عالمية مملوكة لشركات، وليس لدولة، المشاركون من القاهرة والجزائر وجنوب أفريقيا، أحدهم مدير خزانة تفكير، والآخر وكيل معهد دراسات استراتيجية، والثالث من اتحاد الصيادلة الأفريقي (أقلهم وقوعا في نظرية المؤامرة). ووجدتني أتلقى سهام المتفرجين لمرافعتي «عن الاستعمار الأبيض الذي ينهب ثروات أفريقيا» وكل ذنبي محاولة إعادة مسار النقاش مما بدا كوميديا التآمر إلى مسار طبي علمي يفيد مئات الآلاف الذين لن تخفف الشعارات المناهضة للاستعمار وجشع الرأسمالية من آلامهم أو تنفع درعا يدرأ عنهم فيروس الإيبولا.
الاتجاه العام من المناقشات اتهام السادة الأفاضل، من مراكز الدراسات وخزانات التفكير، الغرب بالعنصرية ومعاملة الأفارقة بعقلية المستعمر (تأكيداتي بأن كل المستعمرات التي تتهم الغرب بنهب ثرواتها حصلت على استقلالها قبل 60 عاما ولا تزال تتلقى المليارات من المعونة من بلدان أوروبا، وقعت على آذان صماء).
وتوالت الاتهامات للغرب. الغرب يتحرك فقط عندما تهدد الإيبولا أوروبا وأميركا اللتين اتهمهما عدد من المتصلين تليفونيا وبـ«تويتر» باختراع الفيروس أصلا من أسلحتهما البيولوجية، وهو ما لقي تأييد المثقف اليساري القاهري، مضيفا أن الغرب سيستخدمها ذريعة لإرسال قوات لإعادة احتلال أفريقيا ونهب ثرواتها ومواردها كما فعل لقرنين من الزمان. وقال إن هناك لقاحا للتطعيم من الإيبولا أخفته الشركات الغربية عن العالم قبل 10 سنوات بمنطق جوهره أن شركات الدواء الغربية تخيف العالم وبالتالي ستجني الأرباح من بيع اللقاح والدواء للملايين. قال صيدلي جزائري مشارك إن فيروس الإيبولا لا وجود له، وإن الأمر تمثيلية أميركية من الخيال العلمي كالهبوط على القمر وهجوم 11 سبتمبر (أيلول)، وهي مؤامرة لتمكين أميركا من السيطرة على الأفريقيين بإمدادهم بأدوية لتحديد نسلهم.
شركات الدواء، كأي شركات عملاقة، هي عالمية؛ اسمها: متعددة الجنسية؛ لأنها لم تعد مملوكة لدول وليس لأي حكومات سلطان عليها. وأكبر حملة الأسهم في كل شركات العالم تقريبا من الأثرياء العرب والروس والصينيين (أحيانا الحكومة الصينية) والأفارقة وشركات الاستثمار في المعاشات والتأمين. وكأي منشأة اقتصادية؛ فهي تعمل بحساب الربح والخسارة التي يحاسب إدارتها عليها حملة الأسهم.
خذ مثلا تحذير أطباء بريطانيا أوروبا وأميركا من تطور البكتيريا والطفيليات التي أصبحت تتمتع بمناعة للمضادات الحيوية المعروفة، ولم تبتكر شركات الأدوية مضادات حيوية جديدة لأكثر من 3 عقود. ولم تستثمر في أبحاث المضادات الحيوية، ليس لمؤامرة ضد عينة من البشر (في هذه الحالة العالم الأول في أوروبا وشمال أميركا) بل لأن مبيعات المضادات الحيوية (يحتاجها المريض لأسبوع فقط إذا ما أصابته عدوى جرثومية) ليست مربحة، مقارنة بأدوية يتناولها مرضى المستشفيات العامة على المدى الطويل مثل علاج قرحة المعدة، ومهدئات الآلام، ومعالجة الاكتئاب، والروماتيزم، وأنسولين مرضى السكري، على سبيل المثال. ولذ فخيار حكومات الغرب هو إما تقديم دعم وحوافز مادية لدفع شركات الأدوية لإجراء الأبحاث في مجال الأدوية غير المربحة، أو منحهم دعما مباشرا لمعامل البحوث في معاهد الأدوية والطب.
وللسبب نفسه لم تستثمر شركات الأدوية الضخمة في معامل لقاحات الإيبولا. المعامل أنتجت كميات محدودة لمجال التجربة على الحيوان ولم تجرب على الإنسان؛ حيث إن قوانين كل بلدان العالم تقريبا لا تسمح بنزول دواء للصيدليات إلا بعد ترخيص من وزارات الصحة بنجاحه وبغياب أعراض جانبية تعرض حياة أو سلامة من يتعاطاه للضرر (نفد المخزون العالمي من دواء التجارب بعد معاجلة نفر بسيط بنجاح).
ومجلس اللوردات مثلا في برلمان وستمنستر يناقش منذ يوم الجمعة مشروع لائحة تسمح للأطباء باستخدام عينة أدوية تجارب لم تصرح وزارة الصحة ببيعها، في علاج مرضى ميئوس من شفائهم، لأن القوانين الحالية تمنع الأطباء من ذلك. ورغم أن مشروع القانون يلقى تأييد الغالبية العظمى من مرضى السرطان الذين يقفون على طابور الموت، فإن هناك معارضة شديدة من اتحاد الصيادلة مثلا ومن قطاعات طبية أخرى.
ولذا فأسباب غياب لقاح فعال وأدوية لعلاج الإيبولا بكميات صناعية وافرة، معقدة وأغلبها اقتصادي وقانوني وليس مؤامرة استعمارية ضد الأفارقة والعرب. وقد غضب ممثل الصيادلة الأفريقي من سؤالي: لماذا لم تمول الأنظمة الشمولية الأفريقية (التي تتلقى دعما بالمليارات من المستعمر السابق يذهب أغلبها إلى حسابات سرية في سويسرا) مراكز أبحاث في جامعات بلادها للبحث عن لقاح مناعة (خاصة مع توفر عينات دم ممن شُفوا من المرض لأن بها أجساما مضادة حية) أو أدوية لما بعد الإصابة؟
المثير للانتباه هو: لماذا غابت هذه البديهيات عن أذهان 3 من قيادات تشكيل الرأي العام السياسي في قارة أفريقيا؟ ولماذا لم يكلفوا باحثيهم في خزانات التفكير بالبحث الموجود في مواقع الإنترنت حول شركات الأدوية وقوانين تجربة الدواء على الإنسان، والمعلومات الطبية حول داء الإيبولا نفسه؟
سؤال نهديه إلى وزارات التعليم ومصممي المناهج الدراسية في البلدان الناطقة بالعربية.