فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

النظام الإيراني وجه الشر المحض

لم يسبق للنظام الإيراني أن واجه مثل الظرف العصيب الذي يعيشه في تاريخه، أرهقته الضربة، وورطتْه الحماقة. ضرب بمقتل سليماني، وتورط بحماقة إطلاق الصواريخ على الطائرة الأوكرانية المدنية. في الضربة استنفر النظام حد الاستعداد لحربٍ محتملة، أما في مواجهة الحماقة، فإن العالم كله نظر إلى إيران بوصفها خارج سياق التاريخ.
تصريحات المسؤولين من جميع أنحاء العالم، اتفقت على صفة «الرعب» لإدانة الحادثة المجنونة المتمثلة بإطلاق صواريخ على طائرة مدنية، وخاصية هذه الحماقة أن متابعيها من جميع الطبقات والفئات والمستويات والديانات. لم يعد الخلاف في السياسة فحسب، وإنما في قيم الشراكة الإنسانية وأسس المدنية وفضاء الحضارة أيضاً. دول غربية راهنت على إمكانية ترويض النظام الإيراني تتساءل اليوم عن مدى «صدقية» إيران، ومستوى تطور الشر الذي تمارسه على هذه الأرض ضد بني الإنسان.
تعرض النظام الإيراني لامتحانات كبرى لتحديد موقعه من المنظومة العالمية، لم يؤسس النظام أي بناءٍ حيوي مع محيطه؛ أحلام إحياء الإمبراطورية، مع التصدير الثوري، منعاه من الاتصال المفيد، ورسم صيغ تعاون يمكنه معها المساهمة بالاستقرار والتنمية، أو المشاركة في تعزيز التعايش والسلام بالمنطقة. هذا أمر يتساءل عنه هنري كيسنجر في مواضع من كتبه ومنها: «النظام العالمي»، فيه يعتبر أن إيران: «فرضت نفسها على المسرح العالمي بانتهاك هائل لأحد مبادئ النظام الدولي الوستفالي الجوهرية - مبدأ الحصانة - عبر الإغارة على السفارة الأميركية في طهران، واحتجاز العاملين فيها رهائن مدة 444 يوماً (فِعْلَة أكدتها الحكومة الإيرانية الراهنة، التي أقدمت عام 2014 على تعيين مترجم مُحتجزي الرهائن سفيراً لها لدى الأمم المتحدة). وبروحية مشابهة، ادعى الخميني، في 1989، امتلاك السلطة القضائية المؤهِّلة لإصدار فتوى بإعدام سلمان رشدي، مواطن بريطاني من أصل مسلم هندي، لنشره كتاباً في بريطانيا والولايات المتحدة عُدّ معادياً للمسلمين». هذا مع أنها من الناحية النظرية والتاريخية - يضيف -: «سبق لقادة إيران أن وصلوا إلى ما هو أبعد بكثير من حدود إيران الحديثة، ونادراً ما كانوا قد انصاعوا لمفهومي الدولة الوستفالية والمساواة السيادية. تراث إيران التأسيسي متمثلاً بالإمبراطورية الفارسية التي تمكنت، عبر سلسلة من عمليات التجسد من القرن السابع قبل الميلاد إلى القرن السابع الميلادي، من إقامة حكمها على امتداد القسم الأكبر من الشرق الأوسط المعاصر مع أجزاء من آسيا الوسطى، جنوب غربي آسيا، وشمال أفريقيا».
إيران الثورة اعتدت على الدولة «الوستفالية»، وهجت النظام العالمي، ومرقت على القوانين الدولية؛ كل ذلك جعل النظام الأصولي أبعد ما يكون عن مفهوم الدولة، ليقترب أكثر من المنظمات الدموية، والكيانات الإجرامية. من المرعب أن يأمر القائد الأعلى للقوات المسلحة في إيران علي خامنئي باستهداف طائرة مدنية في الجو عبر صواريخ عابثة تنتقل بين أيدي مناصريه مثل الطراطيع.. هذا أمر يدعو للسخرية، ويهدد العالم، ويجعل النظرية الغربية حول التفاوض مع إيران وإمكانياته، أمراً في غاية الصعوبة، إلا في حال أعيد النظام إلى المربع الأول، أن يختار بين تأسيس دولة حديثة وبناء مؤسسات، أو الاتجاه نحو المروق والثورة والعنف، هذا ما يؤيده كيسنجر: «من حيث المبدأ يجب على الولايات المتحدة أن تكون مستعدة للتوصل إلى تفاهم جيوسياسي مع إيران على المبادئ الوستفالية القائمة على عدم التدخل ولتطوير مفهوم مناسب لقيام نظام إقليمي».
منذ بداية المفاوضات مع إيران حول الاتفاق النووي، علمت السعودية أن النظام سيمارس ازدواجيته السياسية المعتادة؛ محمد جواد ظريف بلغته الدبلوماسية، وبأدوات نفوذه الغربية يعمل لرسم صورة مشرقة عن إيران، في الوقت نفسه يقوم قاسم سليماني بالاستئصال والتهجير، وتفجير السفارات، واستهداف آبار النفط، ودعم الميليشيات، والاجتماع مع قادة العنف الأصولي.
قصة المفاوضات ونمط الدبلوماسية الإيرانية كتب عنها المثير للجدل برواياته وتحليلاته وعجائبه أحياناً وقصصه تريتا بارزي، في كتابه المسلّي: «خسارة عدو - أوباما وإيران وانتصار الدبلوماسية»، وهو من مؤيدي مسار الدبلوماسية وفكرة التفاوض مع إيران بدلاً من حل الحرب، والمطلع على بعض الوثائق بسبب استشارة الحكومة الأميركية له، كما يقول في المقدمة، ومما قاله في الكتاب: «من الخطأ النظر إلى تلك المفاوضات والصفقة التي نتجت عنها على أنها مسألة نووية فقط، جوهرياً شكّلت المفاوضات والصفقة الفصل النهائي من معركة استمرت 35 عاماً حول النظام الجيوسياسي في المنطقة عموماً، ودور إيران في ذلك النظام بشكلٍ خاص». ثم يعرج على لبّ الاتفاق بالنسبة لإيران: «بعد عقودٍ توصلت الولايات المتحدة والغرب إلى فكرة الاعتراف بإيران كقوة إقليمية».
سياسة ترمب الحازمة تجاه سلوك إيران الشرير منح العالم فرصة النظر إلى النظام عارياً من أقاويله وأكاذيبه ودروعه، ليست ابتسامات ظريف ولا مجاراته الدبلوماسية وأحاديثه للغرب عن الفنون الفارسية والخط وعلاقاتها بالأمم هي المعبرة عن مكنون النظرية السياسية للنظام، وإنما يعبر عنه بفصاحة قاسم سليماني وحسن نصر الله وعبد الملك الحوثي، يعبر عنه «فيلق القدس» و«حزب الله» و«الحشد الشعبي»، يعبر عن النظام أكثر قتل الرؤساء والوزراء والصحافيين، صورة إيران تعثر عليها في قتل الأطفال، وفكرة البراميل المتفجرة وقصف الطائرات.
النظام الإيراني جرب جميع أنواع الشر الممكن للإنسان ممارستها، أحدثها وليس آخرها إسقاط الطائرة المدنية بشكلٍ مروّع وحّد الإنسانية، وهز العالم.
العتب ليس على هذا النظام المارق، فهذه طبيعته، وتجب منازلته، وإنما على دولٍ محيطة كسرت أحلامها التنموية، وباتت تفضل الارتماء بأحضان إيران، واللوذ بسياساتها، والتعويل على ميليشياتها، والطيران بأجوائها، تفضل كل ذلك على أن تنضم لمحور التنمية والاعتدال الديني والرؤى الحالمة والتخطيط للمستقبل... هل يتعلم أولئك المجانين والمعاتيه من هذا الدرس التاريخي الخطير؟!