قضيت أياما في مراكش، المدينة الحمراء، كما تسمى، عاصمة المغرب الإسلامية ومدينة التعايش. المناسبة الاحتفال بدورة الشاعر أبي تمام الطائي، ذلك الشاعر الفحل الذي قررت مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري أن تحتفل به في يوبيلها الفضي، الذي حققت فيه نقلة نوعية في العمل الثقافي المؤسسي غير الحكومي في الفضاء العربي. حضر اللقاء الذي استمر 3 أيام أكثر من 400 مثقف وكاتب عربي من أنحاء العالم العربي، دليل مرة أخرى على أن الثقافة العربية لها روافد كثيرة، فعمل المؤسسة غير المرئي تأكيد العروبة التي كاد ينساها البعض في خضم الصراع المتفشي. تناقش الجمع في المستجدات واستمعوا إلى الشعر والموسيقى أيضا. قامة أبي تمام في الشعر كبيرة، والكتب التي نشرت حول أعماله كثيرة؛ هناك من أعجب بفكره وشعره، وهناك من خاصمه وانتقده حتى بعد وفاته بمئات السنين، دليل على حيوية ما ترك من تراث. أنا شخصيا أعارض أبا تمام فيما ذهب إليه في جزئية علمناها أولادنا على قطعيتها وجاءت في البيت المشهور له، السيف أصدق أنباء من الكتب، شخصيا أرى أن هذا البيت يحط من قيمة العلم والتعليم والكتابة، فالتأكيد لديّ أن الكتب أكثر أنباء من السيوف حتى لو طربنا لبيت أبي تمام المشهور!
أعود إلى ما بدأت، سحر المغرب، ومدينة مراكش، فعلى الرغم من كون المغرب اليوم به من السكان ما يفوق 60 مليونا من البشر، وهو ثقل بشري لا يستهان به، فهو الدولة المستقرة، ولم يأت ذلك بالصدفة، فلها دور في تاريخ الإسلام عميق وثري، يرى المغاربة أن المشارقة لم يهتموا به أو يتابعوه، ولمثقفي المغرب في كتاباتهم مصطلحات ليست دارجة في المشرق، وهي إحدى عقبات التواصل، فمعظمهم يترجم من الفرنسية ويعرب المفاهيم في العلوم الاجتماعية باجتهاد، ويترجم المشرقي في الغالب من الإنجليزية، ويجتهد في نحت المصطلحات، فتأتي تلك المصطلحات مختلفة إلى حد كبير وربما متعارضة، تشوش الثقافة العربية.
المغرب اختط ما يمكن أن يسمى «العزيمة المبصرة» وهي توليفة نجاحها في تخطي الصعاب السياسية والاقتصادية، وخصوصا تلك التأثيرات التي عصفت وما زالت بالمشرق، فيما عرف بين كثيرين منا اليوم بـ«الربيع العربي» فقد استجاب المغرب ببصيرة لمتطلبات التغيير، إلى درجة أن رجلا بسيطا في سوق مراكش الشعبية الجميلة قال لي «في المغرب فقط اترك الملك على جنب، وانتقد ما تريد وكيف تريد، وتمتع بحريتك»! هذا ليس فهم الرجل المثقف ولا الرجل الدبلوماسي، إنما هو فهم بائع شاب اسمه حسن التقيته وبعض الزملاء على فنجان شاي مغربي في المحل الذي يعمل به وسط ذلك السوق الفلكلورية الجميلة من ساحة الفنا المشهورة في قلب المدينة الحمراء. الحرية إذن هي أولى الاستجابات الذكية للنظام المغربي، وهي حرية مركبة، لأن المغرب دولة حضارة ضاربة في القدم، ولأنه ملتقى جنوب الصحراء بشمالها المطل على البحر الأبيض وأيضا المحيط الأطلسي، فالحرية النفيسة هي التي تجاور مصالح الشعب ولا تتجاوز عليها.
من علامات الحرية أنك تجد في مكتبات مراكش، وفي تصوري المكتبات المغربية جميعا، كل الكتب التي تصدر شرقا وغربا، بما فيها المطبوعات القادمة من الخليج أو من أوروبا، دون أي رقابة أو عقبات تحول بين المغربي الذي يريد أن يقرأ ومصدر المعرفة الإقليمية أو الدولية.
شغوف المغربي البسيط والعادي بما يحدث في المشرق واضح للعيان، فقد كان التجول في سوق مراكش الشعبية مع عدد صغير من الزملاء من مصر، وما إن يتبين الرجل المغربي البسيط اللهجة المصرية، حتى يسأل بلهفة عن الأوضاع في مصر، ويتمنى أن تستقر، ذلك التوجه يدل على أن موضوع العروبة متغلغل في الضمير الشعبي المغربي دون كثير من الضجيج أو الادعاء.
من الملاحظات في (سحر المغرب) أن الناس تتسم بالهدوء الشديد، حتى في الأماكن المزدحمة لا تسمع ذلك الضجيج الذي تسمعه في مثل تلك الأماكن في مدن الشرق المزدحمة.
كما تلاحظ قلة التعصب بين المغاربة، أو حتى انعدامه، ربما لأن «حراس التأويل» ليس لهم مكان بارز في المغرب وليس لهم (سوق)، كما لهم في مدن الشرق. قال لي مغربي وهو يخرج من المطعم الشعبي - ولكن النظيف - الذي يعج بعدد لا بأس به من السياح الغربيين، أنا هنا مسلم عربي موحد، ولكن ببنطلون (جينز) هذا التعبير تتوقعه من مثقف متعدد المواهب يجيد الاستعارة والتشبيه، ولكنه يأتي من رجل بسيط، يريد أن يدلل لك على انتفاء (التعصب) لدى الشخصية المغربية وهو داء ابتلي به المشرق حتى أفرز جماعات خارج الدولة، دلالة على سقوط التسامح لدى المغربي إلى القاع الشعبي الذي يحتفظ بهويته المسلمة، ولكنه يتعايش مع المختلف عنه بانفتاح. من سحر المغرب هذه الطبيعة المعتدلة، فمراكش ربما هي جنة السياحة الشتوية للأوروبيين، معتدلة الطقس، تميل إلى شيء من الحرارة في النهار، ولكن مساءها منعش تتخلله نسيمات تدرك معها أن النوم مبكرا هو أن تحرم نفسك من التمتع بهذا الطقس الجميل.
كما يتميز البائع المغربي بأمانة ملحوظة، فهو لا يجبرك في الأسواق الشعبية على الشراء، وإن سألت يقدم لك المعلومة الصادقة في معظم الأحيان. الطبقة المثقفة في المغرب واسعة من كلا الجنسين، وقد كان هناك في ندوة أبي تمام ما يقارب الـ100 منهم، ويتسمون، كما الشعب المغربي، بالتسامح الثقافي والقبول بالآخر، كما أن لديهم حسا عاليا بانتمائهم للعروبة والإسلام دون ضجيج ولا ادعاء.
وهم متعددو التخصصات، مختلفون في السياسة باعتدال، حتى المسؤولون من أبناء مدينة مراكش تعجب بحديثهم المثقف الذي يتم دون ورقة وقلم، ودون جور على اللغة العربية، التي يجور عليها بعض المسؤولين المشارقة في حديثهم إلى الناس في المنتديات، حتى لو قرأوا من نص مكتوب، أعرف أن التعميم هنا مناف للتفكير العلمي، ولكن تلك ملاحظة لم أمنع نفسي من تدوينها، بعد أن استمعت في حفل الافتتاح إلى بعض مسؤولي المغرب، وبعض مسؤولي المشرق!!
المغرب من جهة أخرى يقع عليه الظلم من حيث بعض ما يشاع عن بعض مواطنيه، فهو ليس مكانا للأسحار كما يدعي العامة، ولكنه بلد ساحر بتنوع إنتاجه وبتنوع نسيجه الاجتماعي، كما هو غني بتراث إسلامي لم يعتن به كما يجب حتى الآن على الأقل، تاريخه مليء بالنجاحات المبهرة التي بنى عليها استقرارا ملحوظا في بيئة عربية مضطربة من حوله. سحر المغرب يكمن في ثلاث، جدية شعبه، طبيعة بيئته الجغرافية المتنوعة، واستقراره الذي يساير التطور ولا يغفل عنه. ذلك هو السحر ولا شيء آخر.
آخر الكلام:
من حكم أبي تمام الطائي التي يمكن أن تفهم اليوم قوله:
وفي الجواهر أشباه مشاكلة وليس تمتزج الأنوار والظلم