إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

ميكي يخذل خروتشوف

وقف السيد علوان متجهماً أمام بوابة مدينة ديزني للألعاب. كان آباء وأمهات يتقدمون أفواجاً للدخول مع أطفالهم وعلامات الجذل على كل الوجوه، بينما تشبث هو بيدي حفيديه، كأنه يمنعهما من الطيران. و«ابن الولد أعز من الولد»، كما جاء في الأمثال. وهو قد وعد الصغيرين أن يأخذهما لرؤية عالم ميكي ماوس في عطلة رأس السنة. وها هي العطلة تحتضر وتبدأ سنة جديدة، وهما يلحّان عليه بتنفيذ الوعد. إن الطقس متهاود، وأقرب على اللطيف. وهم قد قطعوا بالسيارة ساعة ونصف الساعة للوصول إلى هذه البقعة من كاليفورنيا، الولاية التي لجأ وعائلته إليها يطلب الأمان.
لم يكذب عند تقديم ملفه. سألوه سؤالاً واضحاً عن اتجاهه السياسي: هل أنت شيوعي أو سبق أن كنت شيوعياً؟ أجاب بالنفي. فهو لم يكن مُسجلاً في الحزب، بشكل رسمي، لكنه يساري بالوراثة وحتى النخاع. إنها قضية عاطفية لا تعني موظفة الهجرة. كما أنه لا يحب الاستفاضة في الكلام. نصحه العارفون بأن يردّ على قدر السؤال. وهكذا كان. قبلوا طلبه ومنحوه الإقامة. تلك باتت من الذكريات. والمهم الآن أن يقطع التذاكر ويدخل مدينة الملاهي مع الولدين. إنهما متلهفان لمصافحة ميكي وبطوط وميمي وبندق ومداعبة الكلب بلوتو. حفظوا الأسماء من متابعة النسخة العربية لأفلام الرسوم المتحركة.
يتقدم السيد علوان نحو شباك التذاكر، وهو لم يحسم أمره بعد. فلو قيل له، في سالف الزمان، إنه سيطلب اللجوء في أميركا، لسخر من القائل، ولربما شتمه ولعن والديه. من كان يصدّق أن تقذف الأقدار بالمناضل اليساري إلى رحاب الدولة التي بحّ صوته في المظاهرات من الهتاف بسقوطها، أميركا ومخابراتها المركزية «القذرة» و«ربيبتها إسرائيل»؟ لكن للظروف أحكاماً. وهي تقهر المرء وتسوقه حسبما تجري الرياح، لا كما يتمنى ويشتهي. ثم إن الشكوى لمن كان في مثل وضعه بطر ما بعده بطر. وغربة آمنة أهون له ولعائلته من وطن مفخخ.
وقف صامتاً في الصف الطويل والولدان يتقافزان حوله من اللهفة والسرور. كان ما زال يدير الأمر في رأسه ويوشك على التراجع. ليته لم يفتح الحاسوب في الليلة الماضية ويستفسر عن تاريخ ديزني لاند. قرأ سيرة مؤسسها، وشجعته على القيام بالرحلة. لولا ذلك المقال الذي ورد فيه اسم خروتشوف، عامل المناجم الذي ضرب بحذائه على طاولة الأمم المتحدة في نيويورك. والسيد علوان يحفظ التاريخ. 1960. ليس مثله من يحفظ التواريخ. وقد رأى صوراً تشهد على الحادثة. ذهب الزعيم السوفياتي إلى عقر دار الخصم للتفاوض مع الرئيس أيزنهاور حول مناطق النفوذ في برلين. كان العالم قسمة بينهما. أبيض لك أحمر لي.
أخذ خروتشوف عائلته معه إلى أميركا. وأحبّ أن يذهب مع الزوجة والأولاد إلى «ديزني لاند». أراد أن يرى بعينيه كيف يتسلى الإمبرياليون. لكن مضيفيه اعتذروا منه، وتحججوا بصعوبة تأمين حماية «الضيف الكبير» وسط الحشود. تلك كانت الرواية الرسمية. أما حقيقة ما حصل، فهي أن والت ديزني، صاحب مدينة الملاهي الشهيرة، رفض أن يستقبل زعيماً شيوعياً. قال إنه لن يمد يده لمصافحة الرجل الأحمر.
اشترى السيد علوان تذاكر الدخول وهو يلعن تحكّم الأحفاد برقاب الأجداد. كيف يدخل مكاناً سدوا بابه في وجه الرفيق نيكيتا؟ ركب القطار الذي يدور في مدينة الملاهي وهو يحاول أن يوازن بين الموقفين. أيهما أقوى: عناد ميكي أم خبط الحذاء على الطاولة؟