د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

أرجوك اسمعني!

يقول مؤسس حركة القوميين العرب د. جورج حبش في مذكراته التي كتب جزءاً منها بخط يده وهو خلف القضبان إن «بعض السجناء أثقل علي من السجن نفسه. زهقت حياتي من أحاديث صاحبنا عن نفسه (لم يسمه)... وزوجته الرائعة، وكم مرة ينظف أسنانه، وعاداته، وعبقريته... وكل شيء...أفّ...ألف مليون أفّ، أعصابي لم تعد تحتمل». ورغم أن أيقونة العمل الوطني الفلسطيني د. جورج حبش كان قد اعتاد على النقاشات الحادة في مسيرته النضالية إلا أنه لم يعد يحتمل حوارات الحبس، حيث كان يقضي فيه عقوبة سجنه جراء نشاطاته القومية واليسارية في عام 1968 فيقول بنبرة تنم عن نفاد صبره: يبدو أنني «سأفش خلقي» في يوم من الأيام، أي سأنفجر غاضباً.
واللافت أن مشاعره تجاه الحوار في السجن لم تختلف عما يجري خارج أسواره بسبب ضيق الناس من استئثار أحدنا في الحديث عن نفسه على حساب منح الآخرين فرصة للتعبير. ومهما كان الهم مشتركاً (كالسجن) غير أنه لا يبدو هناك من يراعي فيه أبجديات الحوار وهي وجوب إتاحة الفرصة لغيره بأن يدلوا بدلوهم.
وهذا ما دعا «السجين» د. حبش أن يضيف في مذكراته «صفحات من مسيرتي النضالية»: «أحيانا أشعر أنه من الخطأ أن يكون الإنسان مجاملاً ومهذباً أكثر مما يجب». وشعرت في ثنايا حديثه بأنه مستعد لأن يقضي فترة السجن المتبقية عن هذا «الرجل الأناني» على أمل أن يصرفه عنه بأي طريقة وينعم بحديث صحي مع غيره.
ولهذا قدم لنا الباحث ساكس عام 1974 وزملاؤه دراسة مهمة عن أسباب عدم التزام البعض في آداب الحوار بإفساح المجال للمستمعين بالتعبير عن آرائهم بأريحية من دون مشاحنات.
فقدم الباحثون ثلاث قواعد بسيطة، توصلوا إليها بعد تحويل حوارات مسجلة عدة إلى نصوص في غاية الدقة تدون حتى «همهمات المستمعين» وكل نبرة صوت أو حرف يشير إلى رغبة في التحدث، فضلاً عن اللحظة التي يقاطع فيها الشخص الآخر. فاتضح أنه لو التزم المشاركون تلك القواعد لأصبحت النقاشات أكثر سلاسة وأريحية للجميع؛ الأولى: إذا دعا المتحدث أحد المستمعين للتعليق فلا يحق لأحد غيره التحدث. الثانية: إذا لم يتم تحديد المتحدث التالي، فإن من يملك حق التحدث هو أول من يبادر في الشروع بالحديث (ويلتزم الآخرون الإنصات التام). القاعدة الثالثة: إذا لم يشرع أحد في الحديث، فإن للمتحدث الحالي أن يستمر بالتحدث إذا رغب في ذلك.
هذه القواعد الثلاث لتنظيم الكلام من المفترض أنها تجري بيننا بصورة عفوية حتى ننعم بحوار جميل لا نحتاج معه إلى أن نقول لأحد «أرجوك اسمعني».