ليونيد بيرشيدسكي
TT

تجمد تيار اليمين المتطرف في أوروبا

عام جديد يعني تخويفاً يمينياً جديداً في أوروبا. فعلى الرغم من أن الأحزاب اليمينية المتطرفة أصبحت الآن لاعباً أساسياً على الساحة السياسية في أوروبا، فإنها لم تحقق مكاسب مهمة في القارة خلال عام 2019. وعلى الرغم من التشرذم السياسي المتزايد، فإن التيار لا يزال صامداً ولا يزال الشعبويون الوطنيون غير مهيئين للحكم كما كان الحال دائماً.
فقد تلقيت إشارة مبكرة إلى أن اليمين المتطرف لن يتقدم كثيراً خلال عام 2019 عندما ذهبت إلى بروكسل في فبراير (شباط) لمقابلة ميشال مودريكامين، المحامي البلجيكي الذي كان من المفترض أن يكون الخبير الآيديولوجي الموالي للناشط الأميركي ستيف بانون في أوروبا.
تحدث بانون عن تعطيل عملية الاتحاد الأوروبي من خلال تأجيج موجة يمينية متطرفة في انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو (أيار)، لكن مودريكامين، زعيم «حزب الشعب» الذي يعد قوة سياسية قومية في الجزء الناطق بالفرنسية من بلجيكا، لم يكن يعمل لتحقيق أي قضايا طموحة من هذا القبيل، بل إنه كان مهتماً بتنظيم نوع من النقاشات للسياسيين الوطنيين والمحافظين الأوروبيين. واتضح أن أحلام غرف الحرب المركزية للأحزاب القومية غير واردة التحقيق بسبب قوانين تمويل الحملات الصارمة. فقد فشل المال الأميركي والمعرفة التكنولوجية في تحقيق ذلك؛ إذ جرى حل حزب الشعب في يونيو (حزيران) بعد عرض مخيب للآمال في الانتخابات الأوروبية والبلجيكية.
كان ماتيو سالفيني، الإيطالي المشاغب الذي يقود حزب «رابطة مناهضي المهاجرين»، صديقاً آخر لحزب بانون الذي حاول تشكيل نوع من التحالف الدولي القومي قبل تصويت البرلمان الأوروبي. كان هناك حشد كبير في ميلانو للإعلان عن تأسيس التحالف، لكن «الهوية والديمقراطية»، الفصيل الذي شكله سالفيني وحلفاؤه، انتهى به المطاف كخامس أكبر مجموعة في المجلس التشريعي المؤلف من 751 مقعداً، بالحصول على 73 مقعداً، وهو ما يعد تطوراً كبيراً مقارنة بالمجموعة السابقة التي تألفت من 37 عضواً التي كانت تسمى «شعوب أوروبا والحرية» في البرلمان السابق. لكن التطور جاء على حساب مجموعات أخرى متشابهة التفكير. لم يكن فصيل سالفيني طرفاً في المساومة على الوظائف العليا في الاتحاد الأوروبي ولم يلعب أي دور في صنع القرار فيه. وبالنظر إلى أن الانتخابات الأوروبية غالباً ما يتم استخدامها من قبل الناخبين الوطنيين للتنفيس عن إحباطاتها، إلا أنها لا تتمتع بتأثير اقتصادي كبير. كذلك، فإن هذه النتيجة هي المكافئ للتأرجح والإحباط الكبيرين الذي يعاني منه تيار اليمين المتطرف.
لكن بعد ذلك، تحديداً في الانتخابات الأوروبية، كان من الممكن أن يأمل اليمين المتطرف في تحقيق نصر رمزي، حيث تتركز القوة في الاتحاد الأوروبي إلى حد كبير في المستوى الوطني، وهو المستوى الذي فشل فيه اليمين المتطرف في تحقيق أي انتصارات كبيرة. في الانتخابات الوطنية الثماني للاتحاد الأوروبي التي أتيحت فيها للأحزاب القومية الشعبية فرصة للفوز بمقاعد، كان متوسط النسب التي حققتها 12.1 في المائة، وهي نسبة أعلى من 11.7 في المائة التي فازت بها في الانتخابات السابقة لبلدانهم، لكن النسبة لا تزال مخيفة.
حقق الشعوبيون الوطنيون مكاسب في ثلاثة من البلدان الثمانية - إستونيا وبلجيكا وإسبانيا. في دولة البلطيق الصغيرة، جاء نجاح «حزب الشعب القومي الإستوني المحافظ» المتطرف بفضل الناخبين الريفيين الذين أوجدتهم طفرة التكنولوجيا في البلاد، تحديداً في العاصمة تالين، ويمكن أن تكون نتيجة لتراجع الدعم القومي في فنلندا المجاورة، والذي تجلت تبعاته لاحقاً.
في بلجيكا، حصل الناخبون الذكور الفلمنكيون غير الراضين عن السياسات متعددة الثقافات في البلاد - حزب المصالح الفلمنكية المناهض للمهاجرين - على المركز الثاني في الانتخابات البرلمانية بفضل مغازلة اليمين المتطرف ونجاحه عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وفي إسبانيا، جاء صعود القائد «فوكس» استجابة لمطالبات بوجود تيار متشدد للغاية في مواجهة الانفصاليين الكاتالونيين.
تعرض اليمين المتطرف في مناطق أخرى لهزائم نكراء: على سبيل المثال، في الدنمارك، تحطم حزب الشعب في صناديق الاقتراع بعد أن تعلمت الأحزاب الأخرى، بما في ذلك يسار الوسط المنتصر، بل وصلت إلى حد الاقتناع بأهمية دعم سياسات الهجرة الصارمة، وليست المتطرفة، وشهدت وجود قوى جديدة أصغر من تيار اليمين تحدت حزب الشعب. في اليونان، قلل تراجع المعاناة الاقتصادية من التأييد الشعبي لجماعة «غولدن داون» الفاشستية الجديدة. وفي النمسا، لم يتعافَ دعم حزب الحرية تماماً من الفضيحة التي أدت إلى استقالة زعيمه السابق هاينز كريستيان ستراش في مايو (أيار)، حيث ألقي القبض عليه في عملية غير معتادة، حيث كان يخطط وهو في حالة سكر واضحة لعمليات تآمرية مع امرأة اعتقد أنها سيدة أعمال روسية ثرية.
لقد أبرز سقوط هاينز ستراش الصراع الأساسي بين قدرة السياسيين اليمينيين المتطرفين على الأداء الجيد في صناديق الاقتراع والانتخابات وعجزهم عن الحكم. قدم سالفيني مثالاً صارخاً آخر هذا العام عندما سحب حزبه من الائتلاف الحاكم لفرض انتخابات لا لشيء سوى مشاهدة شركائه السابقين من حركة «فايف ستار» الشعبية اليسارية وهم يشكلون تحالفاً جديداً مع الحزب الديمقراطي الوسطي. وجد سالفيني، وزير الداخلية الإيطالي القوي السابق، نفسه عاطلاً عن العمل على الرغم من أنه لا يزال يتمتع بشعبية كبيرة وتهديداً كبيراً للنخبة الإيطالية. إلا أنه من المحتمل أن يحكم فقط إذا استطاع بطريقة ما حشد أغلبية مع قوى يمينية متطرفة أخرى، مثل حزب «إخوان إيطاليا».
لا تعمل الحوكمة بشكل جيد مع الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا. مثلاً، في النرويج، انهارت شعبية حزب «بروغريس» اليميني المتطرف بسبب سلسلة لا حصر لها من الفضائح التي لحقت بوزراء وبعض مشرعيه. في فنلندا، انقسم حزب الفنلنديين الوطنيين عام 2017، بينما كان جزءاً من الائتلاف الحاكم؛ لأن القاعدة الحزبية المتطرفة اعتبرت وزراءها معتدلين للغاية وذوي عقلية توفيقية. والآن عادت شعبية الحزب إلى الحياة بعدما حقق المركز الأول في استطلاعات الانتخابات الوطنية هذا العام نتيجة لبغض الفنلنديين وجود شريك متطرف. وفي إستونيا، تم بالفعل فصل ثلاثة وزراء من حزب «الشعب الإستوني المحافظ» المتطرف، أحدهم بعد أن خدم يوماً واحداً فقط في منصبه. وبالكاد نجا وزير الداخلية مارت هيلمي من محاولة إقالته بعد أن وصف رئيسة الوزراء الفنلندية سانا مارين البالغة من العمر 34 عاماً بأنها «فتاة مبيعات». ومن التوقع أن تستمر المشكلات والإقالات والأصوات الانتخابية لتشكل تهديداً لتحالف حكومة إستونيا العام المقبل.