داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

الذاكرة البشرية في خطر النسيان

بعد غياب قسري عن بغداد منذ بدء الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003، ولا أعرف متى أعود، حدث تغيير كبير في معالمها، إذ أزيلت معالم تراثية كبعض البيوت والأزقة ودور السينما والمسارح التي كانت تشكل تفاصيل ذاكرة أجيال سابقة، وأقيمت مكانها فنادق و«مولات» وأسواق تجارية فيها كل شيء إلا عبق التاريخ وذاكرة الزمن وبصمات الآباء والأجداد. لو عدتُ غداً إلى عاصمة الخلافة العباسية فلن أجد فيها أحباباً طواهم الموت، وكثيراً مما استقر في الذاكرة. هنا كانت مدرستي الابتدائية، التي تعلمنا فيها ترتيل القرآن والأناشيد الوطنية والقومية و«لاحت رؤوس الحراب... تلمع بين الروابي» الذي لحنه المشرف التربوي العراقي الراحل سعيد شابو. وهنا كلية بغداد التي علّمنا فيها الآباء اليسوعيون الأميركيون قصة حياة محرر العبيد إبراهام لنكولن. أين مكتبة ماكنزي القديمة للكتب الأجنبية حيث اشتريتُ ترجمة رواية «قصة مدينتين» لتشارلز ديكنز و«البؤساء» لفيكتور هوغو و«هاملت» لشكسبير و«قطار الشرق السريع» لأغاثا كريستي؟
على أي حال، بغداد ليست وحدها التي تغيرت. دمشق أيضاً وبيروت والقاهرة وعَمّان ودبي والرياض والكويت. ومدن ومعالم كثيرة في العالم أصابها ما أصابنا... فهذه هي دورة الزمن وسنة الحياة.
التعريف العلمي للبيئة هو «إجمالي الأشياء التي تحيط بنا وتؤثر على وجود الكائنات الحية ومجموعة من الأنظمة المتشابكة مع بعضها لدرجة التعقيد والتي تؤثر فينا ونتعامل معها».
بين يدي كتاب حزين عن البيئة في العالم عنوانه «100 مكان يستحق الزيارة قبل أن يختفي». مؤلفا الكتاب نالا جائزة نوبل للسلام، الأول من جنوب أفريقيا القس ديزموند توتو ونالها في عام 1984 عن كفاحه ضد التمييز العنصري في بلاده، والثاني من الهند الدكتور راجندرا باشايوري ونال جائزة نوبل للسلام في عام 2007. وتصدرت الكتاب مقدمتان؛ الأولى كتبها باشايوري وعنوانها «التغيير المناخي يحدث فعلاً»، والثانية كتبها توتو وعنوانها «التغيير المناخي هو التهديد الأكبر».
وطبعاً ليست كل الأماكن التي يتناولها الكتاب اختفت بفعل التغيير المناخي لأن كثيراً منها بسبب التغيير السكاني. ومن بين المائة موقع المهددة بالاندثار خمسة مواقع عربية هي: دلتا النيل واحتلت الموقع التاسع، ووصفها الكتاب بأنها «هبة الله للمصريين». وفي أسباب توقع اندثار الدلتا قال الكتاب إنها في خطر كبير الآن بسبب تغير المناخ. فارتفاع مستوى مياه البحر سيؤدي إلى تآكل التربة وستغمر مياه البحر المالحة الدلتا والأراضي الزراعية فيها. وبحلول عام 2050 قد يؤدي ارتفاع مستوى البحر إلى تشريد أكثر من مليون شخص. كما أن تغير معدل تساقط الأمطار سلبياً وارتفاع نسبة التبخر بالإضافة إلى ازدياد أعداد السكان ستؤدي إلى تهديد موارد مصر من المياه العذبة، خاصة مع تشغيل سد النهضة الإثيوبي.
أما الموقع الثاني فهو جبل المكمل أو غابة الأرز في لبنان، واحتل الموقع الرقم 32 في القائمة. كانت أشجار الأرز تغطي سهول لبنان وجباله، أما اليوم فهي تتركز في منحدرات جبل المكمل. ويقال إن شجرة الأرز اللبنانية من أقدم الأشجار في العالم ويصل عمر بعضها إلى آلاف السنين. ومن المتوقع أن تواجه هذه الأشجار خطر تغير المناخ مع ارتفاع درجات الحرارة خلال السبعين عاماً المقبلة. وقد تختفي هذه الشجرة الجميلة التي يحتضنها علم لبنان لتصبح جزءاً من أساطير الماضي.
واحتلت غابات أشجار الصمغ في منطقة كردفان في السودان المركز 79 في القائمة. فالسودان هو أكبر منتج للصمغ العربي الذي استخدم قديماً في تحنيط الفراعنة، وفي حفظ اللوحات، ويستخدم حالياً في المشروبات الغازية لمنع عزل الألوان، وفي حفظ مكونات الدواء، وفي تثبيت حبر الطباعة في صناعة الصحافة. وسيؤدي انخفاض معدل تساقط الأمطار وارتفاع درجات الحرارة والجفاف في المنطقة خلال الخمسين عاماً المقبلة، أو أقل، إلى انحسار هذه الغابات الطبيعية وقلة إنتاج الصمغ ما يؤثر سلباً في حياة ملايين السودانيين.
واحتلت العاصمة الأردنية عَمّان الموقع 87 ووصفها العالمان بأنها مدينة تعتبر الماء، وليس النفط، أهم مصدر طبيعي للحياة، نظراً لشحة المياه فيها ومعاناة أكثر من ثلاثة ملايين نسمة ما قد يؤدي إلى نزوح السكان منها في المستقبل واندثارها.
أما بقية الأماكن والظواهر الشهيرة المهددة بالاختفاء فمنها حسب تسلسل الكتاب: طيور جزيرة هاواي، وثلوج جبال كلمنجارو، وروتردام، وشعب التوندرا في القطبين، ومدينة كجرات مسقط رأس المهاتما غاندي المشهورة بالفحم الذي يحمل اسمها، والقطب الشمالي، ودلتا نهر المسيسيبي، وأولمبيا ملتقى آلهة الإغريق والرياضيين، وفينيسيا (البندقية)، وبحيرة تشاد، وسيبيريا في روسيا حيث انتقلت من معسكر مرعب للنفي والاعتقال إلى مدن حديثة، وتوفاليو رابع أصغر دولة في العالم، وصحراء كالهاري، وبكين عاصمة السلالات الصينية، وبحر الأرخبيل، وكراكاس، وخليج هدسن الغربي، وشيكاغو نبض أميركا، وجزر المالديف، وبانكوك، وترينداد، وبحر إيجه، وغابات الأمازون الممطرة، وهندوراس، ونهر التيمز البريطاني، وحوض الكونغو، وقناة بنما، ونهر كولومبيا، والبحر الكاريبي، وشبه الجزيرة القطبية الجنوبية، والرقم المائة هي العاصمة الدنماركية كوبنهاغن.
والهدف من هذا الكتاب الحزين هو جذب انتباه الرأي العام إلى هذه المواقع النادرة لحمايتها من الاندثار والانقراض والاختفاء والنسيان؛ فالرأي العام يجب أن يعرف أن هذه الأمكنة والظواهر الطبيعية ليست معرضة للاختفاء في المستقبل. إنها بدأت فعلاً في الاندثار والاختفاء سواء بفعل الطبيعة أو التطور العمراني؛ ولذلك فإن هذه الكنوز ستصبح شيئاً من الماضي إذا لم نفعل شيئاً!