إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

نحن لا نزرع اليأس

باريس تتعارك مع نفسها في هذا الموسم. شمس وصقيع. حمى تسوّق وإضرابات. بابا نويل ببدلة حمراء ومتظاهرون بسترات صفراء. ألوان رأس السنة في الشوارع واللون القاتم في «اللوفر». يقدم المتحف العريق معرضاً لبيير سولاج، الرسام الذي يصبغ كل لوحاته بالأسود، لونه المفضل الوحيد الذي لا يحيد عنه. أتأمل اللوحات الفسيحة، وأرى في طياتها أقواس قزح. هل أنا مصابة بعمى الألوان؟ لا شك أنها كرامات الفنان العجوز الذي يخطط للاحتفال ببلوغه المائة في الأسبوع المقبل.
اعتاد أن يرتدي الثياب السود منذ أن غادر الطفولة، وصار من حقه اختيار ما يلبس. قالت الأم لابنها المتمرد: «أتعلن الحداد عليّ منذ الآن؟». لكن الولد مضى في قراره، لا في الثياب فحسب بل في أسلوبه الفني الذي جعل منه واحداً من أشهر الرسامين الفرنسيين المعاصرين وأغلاهم ثمناً. بيعت له لوحة الشهر الماضي بأكثر من عشرة ملايين دولار. صحيح أنها مجرد سطح أسود داخل إطار، لكن أي سواد؟ تتأمل اللوحات وكأنك تغوص في ذاتك. طبقات من لون واحد تتداخل وتنزاح وتشفّ وتبعث انعكاسات وظلالاً مدهشة. يطلق النقاد على سولاج لقب «فنان الأسود المضيء». إن أعماله هي وجه من تناقضات هذه المدينة التي تتعارك وتتصالح مع نفسها. وهو يرسم بالريشة وبالشفرة وبالمشرط وبحد السكين. وأحياناً بالآلة التي يستخدمها العمال لكشط الدهان عن الجدران. يضع على حافتها صبغته السوداء، ويمرّ بها على بياض القماش. ينزلق عليه في خطوط مستقيمة أو دوائر. يترفق به وينحته أو يسنّنه ويمزّقه. شلع قلع.
وراء كل عتمة في اللوحات تنبثق أطياف سحرية. هكذا هي الحياة. والرسام الذي عاش تسعة وتسعين عاماً يتأهب لمعرض جديد. وهناك شباب يُقتلون دون العشرين في أرجاء الكرة الأرضية. في يابستها ولجج بحارها. وعلى مسافة نصف كيلومتر من «اللوفر»، أقام الفرنسيون، الأسبوع الماضي، جنازة وطنية لمجموعة من جنودهم الذين قُتلوا في أفريقيا. تنطوي خطابات الرثاء، ويتوجه الآباء والأمهات إلى دكاكين الميلاد لشراء هدايا العيد. يفكرون بالوليمة التقليدية، وبما يجب ألا يغيب عنها. كبد الوز. شرائح السمك المدخّن. القواقع الطازجة. الشوكولاته. الشمبانيا. وفي الصباح التالي، يقطعون المسافات ذاهبين إلى العمل سيراً على الأقدام. إنه إضراب عمال النقل. يدافعون عن تقاعد يسمح بعيشة رخية. عن كبد الوز والشوكولاته في أرذل العمر. عن سواد تتسلل منه أطياف خضراء وبرتقالية. والحكومة تسمع، والوزراء يسهرون الليالي لكي يتوصلوا إلى حل يرضي المُضربين. هناك حكومات، نعم، تصغي لشعوبها. لا تُغلّس ولا تُطنّش، ولا تستبدل بيدقاً ببيدق.
يمنحني معرض سولاج دفقة من أمل، أنا التي كتبت في «فيسبوك» أمس: «الرومانسية ماتت، ولازم نسلّم نفسنا». كان التلفزيون قد أعاد فيلم «ثرثرة فوق النيل»، واستعرت الجملة، مع تحوير بسيط، من نجيب محفوظ. اختلطت في الرأس مظاهرات بغداد وبيروت والجزائر وغزة. ينادون بحياة كريمة، ويتغطون بالديمقراطية، ويستيقظون على سواد. تعال يا بيير سولاج واغرف لونك من عندنا. هل ستغرق العوامة في النهر؟ أتذكر جملة سمعتها من إميل حبيبي حين زار باريس. سألته عن السر الذي يجعل الفلسطيني يتمسك بالأمل. قال: «شعبي لا يقتني اليأس لأنه من الكماليات».