تبدأ في بريطانيا اليوم الانتخابات البرلمانية، لكن من غير المرجح أن يتغير أو يتأرجح موقف الكثير من الناخبين بفعل وثائق وزارة الخزانة، التي تم تسريبها، والتي كشف عنها جيريمي كوربن، زعيم حزب العمال، خلال مؤتمر صحافي يوم الجمعة الماضي. مع ذلك تقدم تلك الأوراق لمحة عن العواقب المحتملة لأي «اضطراب ناتج عن البريكست» في حال فوز المحافظين بالأغلبية البرلمانية كما هو متوقع بحسب استطلاعات الرأي.
تفحص الوثيقة الداخلية المكونة من 15 صفحة، والتي تعتبر «حسّاسة رسمياً»، العواقب المالية للجوانب المختلفة من اتفاقية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «البريكست» فيما يتعلق بآيرلندا الشمالية. وحري بأي شخص ينظر في حجم التجارة المعرضة للخطر أن يرى تلك الأمور محضّ تفاصيل، أي بمثابة قائمة مراجعة العمل النهائي التي يناقشها المالك الجديد للمنزل مع المسؤول عن عملية البناء، إذ تمثل آيرلندا الشمالية 2 في المائة فقط من الاقتصاد البريطاني في نهاية المطاف.
مع ذلك للترتيبات التجارية الخاصة بآيرلندا الشمالية أهمية كبيرة بسبب السلام، الذي يكون هشاً أحياناً، والذي تمخض عن اتفاق الجمعة العظيمة عام 1998. كذلك لهذا الأمر علاقة بالوضع الدستوري للمملكة المتحدة الذي يزداد ضعفاً ووهناً. وقد أثار بوريس جونسون، زعيم حزب المحافظين، حفيظة حلفائه السابقين في الحزب الوحدوي الاشتراكي الديمقراطي لأن اتفاق «البريكست» الذي توصل إليه يبني حدوداً تجارية على أرض الواقع بين البر الرئيسي البريطاني والأقاليم التابعة له، ولن تنجح المذكرة التي تم تسريبها في تحسين مزاجهم.
تنص المادة (6) من بروتوكول آيرلندا الشمالية في اتفاق جونسون، الذي تم مراجعته، أنه «لن يمنع أي جزء من البروتوكول المملكة المتحدة من ضمان دخول السلع القادمة من آيرلندا الشمالية دون قيد إلى الأجزاء الأخرى من السوق الداخلية للمملكة المتحدة». وتتضمن الصفحة الثانية من الوثيقة هذه النقطة أيضاً. ومع ذلك يتم سرد الكثير من التأويلات المحتملة لمصطلح «الدخول دون قيد» في نقاط لاحقة، فهل يعني هذا المصطلح «عدم فرض قيود على السلع»؟ أم وجود تنسيق وتوافق لائحي تنظيمي بين البر الرئيسي البريطاني وآيرلندا الشمالي؟ أم يعني خفض التكاليف الإدارية عند نقل السلع؟ أم إلغاء عمليات التفتيش المادية؟ لا يبدو حتى الآن أن هذا الأمر واضح.
تقدّر قيمة صادرات آيرلندا الشمالية من السلع إلى كل من إنجلترا واسكوتلندا وويلز بـ11.4 مليار جنيه إسترليني (14.9 مليار دولار)، وتمثل 53 في المائة من إجمالي مبيعاتها الخارجية. وسوف تستوعب المجموعة الصغيرة من الشركات الكبرى، التي تمثل نحو 40 في المائة من إجمالي حجم الصادرات، أي تكاليف جديدة بيسر وسهولة، في حين أكثر الشركات المنخرطة في عمليات التصدير من آيرلندا الشمالية إما صغيرة وإما متوسطة الحجم، وسوف تؤثر الإقرارات الجمركية، وعمليات فحص وتدقيق الوثائق «سلباً على اقتصاد آيرلندا الشمالية»، بحسب ما أفادت به وثيقة وزارة الخزانة، مشيرة إلى توجه الحكومة نحو خفض العبء على صغار التجار.
تفترض وثيقة وزارة الخزانة أن «الدخول دون قيد» يعني أن نقل السلع من آيرلندا الشمالية إلى البر الرئيسي البريطاني سوف يكون جزءا من إجراءات طبيعية تتضمن ضريبة القيمة المضافة، وأنه لن تكون هناك تعريفات جمركية، أو حصص، أو عمليات تحقق من «قواعد المنشأ». مع ذلك تقرّ الوثيقة بوجود عمليات فحص للسلع النباتية والحيوانية وإقرارات جمركية. هناك الكثير من علامات الاستفهام، وهي واردة على هذا النحو حرفياً في الوثيقة، بشأن الخلافات والنزاعات التجارية الأخرى التي سيتضمنها النظام الجديد. إذ بالنسبة إلى التجارة بين الشرق والغرب، من البر الرئيسي البريطاني حتى آيرلندا الشمالية، سوف يعتمد الأمر بشكل كبير على المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، حيث ستحدد تلك المفاوضات الشروط المرجعية لتقييم السلع «المعرضة لخطر» الوصول إلى السوق الأوروبية الموحدة من خلال عبور الحدود بين آيرلندا الشمالية وجمهورية آيرلندا.
أيضاً يظل أكثر ما يثير القلق هو إشارة الوثيقة المسرّبة إلى أن عمليات الفحص المادية، والإقرارات الجمركية، التي تنطبق على الجانبين «ستكون معرقلة كثيراً لاقتصاد آيرلندا الشمالية»، وستكون النتيجة هي ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية وهو ما من شأنه التأثير سلباً على وظائف مجال تجارة التجزئة. ويستبعد جونسون باستمرار احتمال حدوث مثل تلك الخلافات والنزاعات، لكن وزارة الخزانة تتحدث بوضوح عن الخطر الذي تمثله آيرلندا الشمالية دون وجود عمليات فحص، حيث ستصبح بمثابة الباب الخلفي لمرور السلع غير الخاضعة لجمارك الواردات، أو غير المطابقة لقواعد المنشأ، أو المعايير التنظيمية، إلى بريطانيا.
كذلك هناك ما يسمى بالآثار «عالية المستوى»، حيث يمكن أن يؤدي الفصل المادي لآيرلندا الشمالية إلى «تقويض تماسك السوق الداخلية للمملكة المتحدة وحدوث تباين وعدم اتساق أساسي في طريقة عملها» على حد قول وزارة الخزانة. أكثر ما يأمله جونسون في تفادي عمليات الفحص هو إقامة علاقة تنظيمية قوية مع أوروبا، وهو ما استهدفته مقترحات رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي، التي كان لها نصيب كبير من الكراهية. مع ذلك سيتسبب ذلك في خسارته لدعم مؤيدي «البريكست»، وضياع فرصة إبرام اتفاق تجاري مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب.
ليست وزارة الخزانة فحسب هي التي ترى عيوباً عملية في خطط جونسون، حيث تناولت صحيفة «فاينانشيال تايمز» خلال الأسبوع الماضي وثيقة من وزارة «البريكست» تحذر من عدم انتهاء الحكومة من إعداد النظام التجاري الجديد الخاص بآيرلندا الشمالية قبل اختتام محادثات تجارية أشمل مع الاتحاد الأوروبي؛ إذ لم يتم مناقشة وفحص أي من هذه الأمور أثناء الحملة الانتخابية باستثناء المؤتمر الصحافي المتأخر لكوربن. وقد أقرّ ستيف باركلي، وزير «البريكست»، بوجود خلافات تجارية جديدة خاصة بآيرلندا الشمالية أثناء جلسة في مجلس اللوردات خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول)، لكن جونسون نفى مراراً تسبب اتفاقه في مثل تلك الجلبة والانزعاج، أو الخلافات، أو حالة عدم اليقين.
تتمثل المشكلة الأكبر على نحو ما في رفض جونسون التعامل مع الواقع. ربما يصبح الشعب مستعداً ومتأهباً لحدوث قدر ما من الاضطراب إذا ما كان هناك نقاش صريح وشفافية، لكن زعيم حزب المحافظين يرفض التحدث بصدق عن اتفاقه، أو ربما لا يفهمه، والنتيجة سيئة في الحالتين. فيما يتعلق بانتخابات اليوم الخميس، لن يتسبب أي من هذا في قلق أكثر الناخبين الإنجليز. وقد أوضحت استطلاعات الرأي في بعض الأوقات أن مؤيدي «البريكست» يرغبون في رؤية آيرلندا الشمالية، أو اسكوتلندا، خارج الاتحاد إذا كان ذلك يعني إتمام اتفاق «البريكست».
مع ذلك يوضح الكشف عن الوثيقة الأمور التي لا تزال خاضعة للتفاوض، وما سيكون على المحك بالنسبة إلى اتحاد بريطانيا ذاتها. يذكرنا ذلك بالمشكلات المتعلقة بالثقة، والتي لطالما كان يعاني منها جونسون. ما يحدد مدى خطورة هذه المشكلة هو حجم الأغلبية التي سيحصل عليها في حال فوزه بالأساس. بعد ذلك سوف تعتمد الكثير من الأمور على الاتحاد الأوروبي، الذي سيتعين عليه التفاوض معه على شروط تلك الخلافات، التي ينفي وجودها تماماً.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»