إميل أمين
كاتب مصري
TT

الصين وروسيا... قبلة الحياة لـ«الناتو»

خُيل للمحللين السياسيين المتابعين لشأن حلف الأطلسي «الناتو» أن قمة لندن التي جرت بها المقادير قبل يومين ستكون بمثابة إعلان وفاة للتحالف الأوروبي الأميركي، ذاك الذي قدر له أن ينتصر على جماعة المحور من نازيين وفاشيين ويابانيين في الحرب العالمية الثانية، وظل طوال 7 عقود قوة فاعلة وناجزة على الخريطة الجغرافية العالمية.
غير أنه من المثير أن تأتي النتائج مغايرة للتوقعات، وحساب الحصاد مختلفاً عن حساب البيدر، ولعل الفضل الأول والأخير في إبقاء الناتو على قيد الحياة وضخّ دماء جديدة في شرايينه يعود إلى روسيا والصين.
يعنّ لنا قبل الدخول في عمق أحداث قمة لندن التساؤل: هل باتت أهمية الناتو اليوم كما كانت قبل 3 عقود، أي في ظل الاتحاد السوفياتي الذي تفكك أوائل التسعينات؟
بالقطع يمكن الإشارة إلى أن القيمة الاستراتيجية له ضعفت بشكل واضح، وبدأت الخلافات تدب بين جانبي الأطلسي من جراء قناعات الأوروبيين بأن الحرب والصراع المسلح بعيدان عن ناظري أعينهم.
تم تخليق الناتو ليكون المكافئ الموضوعي والندّ لحلف وارسو، لكن الأخير تبخر، كان ذلك في نهايات الثمانينات، أما الصين فقد كانت متوارية عن الأنظار، لا تشاغب أو تشاغل أحداً، ماضية في برنامجها الخاص بقوة الردع النقدي أول الأمر.
3 عقود خُيل فيها للأوروبيين أن واقعاً جيوبوليتيكياً معاصراً غيّر الأوضاع وبدّل الطباع، بل أبعد من ذلك، بدأت أحاجي مثيرة تتخلق في رحم الأزمنة المعاصرة في الألفية الجديدة، كالقول بالأوروآسيوية الجديدة، ذلك الحلم الذي نظر إليه الرئيس الفرنسي الكبير شارل ديغول، الذي لم يكن يداري أو يواري ضيقه من غطرسة العم سام، ولهذا وضع ترسانة بلاده النووية خارج إطار قرارات الناتو، وأبقى الأمر حقاً سيادياً فرنسياً مطلقاً.
كانت تطلعات الرجل تمضي في طريق لمّ الشمل الأوروآسيوي، في تجمع يضم أكبر مساحة جغرافية على وجه البسيطة، وفيها العدد الهائل من السكان الذي يفوق أي تجمع آخر.
الذين تابعوا مشاهد التقارب الروسي الأوروبي عامة، والروسي الفرنسي، والألماني خاصة في العقد الثاني من القرن الحالي، وقر لديهم أن تحقيق الحلم الأوروآسيوي على الأبواب يزاحم ويكاد يدعو الحلف الأطلسي للتراجع عن موقعه السبعيني التقليدي.
الصين بدورها تمددت طويلاً في الداخل الأوروبي، وبشّر قطاع كبير من الأوروبيين بأنه آن أوان التعاون الأوروبي الصيني، وقد بلغ الخلاف ببعض دول القارة العجوز للإعلان عن تحالفات مع الصين تكاد تسبب قلقاً في النهار وأرقاً في الليل لبقية الجماعة الأوروبية، كما الحال مع إيطاليا، سليلة الإمبراطورية الرومانية.
من ناحية ثانية، بلغ الشقاق بين حلفاء الأمس حدّ تقول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن حلف الناتو يعاني من «موت سريري»، أو «سكتة دماغية»، وهي استعارة مجازية لا تخفى عن أعين مَن لديهم علم من كتب أبقراط الطبية، لحالات ما قبل الوفاة.
ماكرون حفيد شارل ديغول كان قد تحدث العام الماضي عن فكرة إنشاء جيش أوروبي مسلح قائم بذاته، وإن لم يشر إلى أنه بديل لـ«الناتو»، لكن اللبيب بالإشارة يفهم.
هل كان للرئيس دونالد ترمب دور بعينه في تعميق الشرخ الحادث في جدار الناتو؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك في حقيقة الأمر، ولا سيما مع مطالباته المستمرة والمستقرة بزيادة حصص الدول الأوروبية في موازنة الحلف، وبحد يصل إلى 2 في المائة من الناتج القومي الإجمالي لكل دولة، الأمر الذي بدا مرفوضاً من غالبية دول القارة الأوروبية.
في هذه الأجواء جاءت قمة لندن، والجميع يتوقع خلافاً يتصاعد إلى عنان السماء، لكن السياسة الدولية لعبة أخرى، والتحولات الدولية السريعة الإيقاع أمر مغاير للتنظير السياسي، والحقائق تفرض نفسها بنفسها على خريطة الشطرنج الإدراكية الأممية... ما الذي جرى؟
مؤكد؛ استيقظ أعضاء الناتو، أوروبيين وأميركيين، من أقصى الأرض إلى أقصاها، على مستجدات جيوسياسية في البر والبحر والجو، وقد وجدوا من حولهم تحديات هائلة، تتمثل في عودة روسيا قوة عسكرية، تمثل خطراً محتملاً على الأرض من جهة، وانتشارها المخيف في البحر، ناهيك عن سعيها الدؤوب لعسكرة الفضاء من ناحية أخرى.
أما الخوف الأكبر لجماعة الناتو فبات يتمثل في التنين الصيني القادم لا محالة، يخفي رغبته في التمدد والسيطرة في أجواء التجارة العالمية، وطريق الحرير الجديد، وهذه من مسلّمات نشوء الإمبراطوريات وارتقائها عبر التاريخ.
لا يخفي ينس ستولتنبرغ، الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مخاوفه من التأثيرات الأمنية لتصاعد الصين كقوة عسكرية، ويرى أن قدراتها المتنامية، بما في ذلك الصواريخ، باتت مهدداً يطال مدن أوروبا وأميركا، وأنه قد حان الوقت للتحالف أن يعالج القضية بشكل جماعي.
أدرك حلفاء الأمس أن الصراع لم يغب بمطلقية المشهد، وأن المهددات تأخذ صوراً أخرى، وليس من قبيل المصادفات القدرية أو الموضوعية أن يمضي نيكولاي باتروشيف الأمين العام لمجلس الأمن الروسي في زيارة إلى الصين، في نفس توقيت انعقاد قمة الناتو، وذلك بهدف تعميق المشاورات الأمنية الاستراتيجية بين بكين وموسكو، وتفعيل أوجه التعاون في مجالي إنفاذ القانون والأمن، وهي مصطلحات مطاطة لزجة، تعني أمراً واحداً، مواجهة حلف الناتو ومجابهته عسكرياً، وهو الذي يقترب حثيثاً من حدودهما الجغرافية.
يختلف الحلفاء أحياناً، لكن الدم الأزرق يوحدهم من جديد في مواجهة الرجل الأصفر، بنوع خاص.. إنه عالم العنصريات والقوميات والشوفينيات، عالم الحرب الباردة الثانية والصراع الأممي الممتد منذ زمان وزمانين.