أندرياس كلوث
خدمة «بلومبيرغ»
TT

جيش أوروبي موحد... فكرة مستحيلة الحدوث

في الوقت الذي يجتمع فيه حلفاء الناتو بالقرب من العاصمة لندن، تحوم في الأفق بعض الأسئلة الوجودية في آفاق فندق «غروف» الفخم: إلى أي مدى سوف يستمر التحالف؟ هل ما زال متحداً بدرجة كافية للردع؟ هل يمكن تشكيل جيش أوروبي جديد لاستكمال، وربما استبدال، الحماية الأميركية عبر الأطلسي؟
دائماً ما كانت الإجابة السريعة عن التساؤل الأخيرة هي كلا. ومما يؤسف له، ليس من المتوقع تشكيل جيش أوروبي موحد في المستقبل القريب، أو على الإطلاق. وينبغي على الزعماء الأوروبيين الإقرار بذلك بكل صراحة وأمانة، كما ينبغي على أعضاء حلف شمال الأطلسي كافة، والجانب الأميركي منهم قبل الجميع، القبول بأنه يتعين عليهم بذل قصارى جهدهم على الوجه الأمثل بغية تبديد الشكوك الثائرة حول التحالف وماهيته. والحقيقة الواقعة تقول إنه في المستقبل المنظور: لا يزال حلف الناتو هو الدرع العسكرية الوحيدة الموثوق فيها التي تمتلكها القارة الأوروبية.
والمتحمل الوحيد لآثام الشواغل والمخاوف الأوروبية الأخيرة ليس إلا الرئيس الأميركي دونالد ترمب بكل تأكيد، والذي أثارت تصرفاته ذات الطبيعة التجارية البحتة إزاء حلف الناتو الكثير من التوترات لدى زعماء القارة الأوروبية. وهو محق تماماً في انتقاده البخلاء من أبناء الاتحاد الأوروبي من شاكلة ألمانيا بسبب القيود التي تفرضها على الإنفاق العسكري الأوروبي. لكنه يجانبه الصواب تماماً عند الإشارة إلى «مشروطية» التزام الولايات المتحدة بموجب المادة الخامسة من ميثاق حلف الناتو – التي تقضي بأن الهجوم العسكري على عضو واحد من أعضاء الحلف يعتبر هجوماً على أعضاء الحلف كافة. إذ إن الغرض الأساسي من الحلف هو تحقيق مبدأ الردع، ولن يتسنى ذلك أبداً في ظل الضمانات العسكرية «المشروطة».
والجاني الثاني وراء تلك الأزمة الأوروبية الراهنة، كما يقول سكان وسط أوروبا، هو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. فلقد عززت كلمته الأخيرة التي وصف فيها حلف الناتو بالمتوفى «دماغياً»، فضلاً عن هشاشة المادة الخامسة، من حالة التوترات الجارية. وليس مرجع ذلك أن الرئيس الفرنسي خرج بتصريحات خاطئة، وإنما بسبب أنه لم يكن يجدر بالرئيس الفرنسي توصيف الداء بتلك الصراحة الصارخة!
وهذا بالتأكيد ما تشعر به المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في الوقت الراهن. لدرجة أنها أخبرت الرئيس ماكرون باستيائها البالغ من محاولات «لصق الأكواب المكسورة حتى التمكن من الجلوس معاً وتناول كوب من الشاي»، مجرد كوب من الشاي للزعيمين اللذين لطالما شوهدا متعانقَين في المناسبات العامة والرسمية!
ومع ذلك، فإن السيدة ميركل لا تختلف في شيء عن السيد ماكرون من حيث دعوتها للمجتمع الأوروبي بـ«الفطام» عن الرعاية الأميركية المستمرة والعمل على إنشاء جيش أوروبي حقيقي وموحد. وتتسق هاتان الفكرتان سواء بسواء: أي أنَّ الاستجابة النظرية الوحيدة الممكنة للحماية الأميركية المستمرة للقارة الأوروبية هي محاولة اعتماد المزيد من الدفاع الذاتي الأوروبي عن النفس.
وحلم الجيش الأوروبي الموحد قديم قدم المشروع الأوروبي ذاته. فلقد صيغت فكرة تشكيل الجيش الأوروبي الموحد منذ عام 1952 من قبل بلجيكا، وفرنسا، وإيطاليا، ولوكسمبورغ، وهولندا، وألمانيا الغربية. وكان ذلك قبل أن يُسمح لألمانيا ما بعد الحرب العالمية الثانية بأن يكون لها جيش خاص وجنود مجندون. ولقد صدّق برلمان ألمانيا الغربية على الفكرة حينذاك، لكن البرلمان الفرنسي رفضها؛ مما أسفر عن تأسيس جيش ألمانيا الغربية في عام 1955، ثم جرى انضمامه إلى صفوف قوات حلف الناتو لاحقاً. ثم تبع التكامل الأوروبي المسار الاقتصادي بأكثر من اعتماده للمسار العسكري منذ تلك الأثناء.
ولا تزال التعقيدات والتداعيات التي تسببت في وفاة الوليد الأوروبي «العسكري» مستمرة حتى يومنا هذا. فلا تزال البلدان التي يتألف منها الاتحاد الأوروبي معنية بسيادتها الوطنية في المقام الأول، والتي يجري الإعراب عنها قبل كل شيء من واقع قرارات إرسال الجنود الأوروبيين إلى ميادين القتال الخارجية. كما أن هناك الكثير من المصالح المختلفة بين بلدان الاتحاد. فهناك فرنسا المنشغلة تماماً بمستعمراتها السابقة في غرب القارة الأفريقية. ويساور سكان بلدان البلطيق وبولندا القلق بالتهديدات الروسية المحدقة. أما ألمانيا، التي لا يعنيها من ذلك من شيء، فمشغولة للغاية ببناء ثاني أكبر خط لأنابيب الغاز الطبيعي الممتد إلى روسيا، في محاولة للتحايل على بلدان شرق الاتحاد الأوروبي.
كما أن هناك تقاليد تاريخية تتسم بالتنافر الشديد بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي؛ مما يجعل التكامل المطلوب في التسلسل التراتبي للقيادة والأوامر العسكرية من المحال تقريباً. فالدولة الفرنسية ما بعد الحقبة الاستعمارية تعتبر العمل العسكري من الأدوات المشروعة في السياسة الخارجية، ويتمتع الرئيس الفرنسي بصلاحيات هائلة في توجيه القوات المسلحة الفرنسية. أما ألمانيا التي لا تزال ذكريات الحرب العالمية الثانية ماثلة لا تغيب عن مخيلتها، فتعارض التدخلات العسكرية الخارجية تماماً. وعلى العكس من فرنسا، فإن الجيش الألماني يخضع لصلاحيات البرلمان؛ مما يحتم عليه الحصول على التفويض الشعبي العام من البرلمان الألماني قبل الشروع في أي مغامرة عسكرية من أي نوع. فهل من المتوقع من الرئيس الفرنسي أن ينتظر بفارغ الصبر، قرارات الهيئة التشريعية الألمانية قبل اتخاذه القرار بشأن ما إذا كان يجب إطلاق النار على مفرزة من القوات الخاصة الناطقة بالروسية في إحدى غابات إستونيا المتجمدة؟ وهل من شأن بلدان الاتحاد الأوروبي الموافقة على التخلي عن تلك الصلاحيات العسكرية المهمة وتفوض الأمر بها تماماً إلى قيادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل؟
تكمن المشكلة الأساسية، كما يفسرها عالم السياسة يان تيكاو من «صندوق مارشال الألماني» في حالة انعدام الثقة: «الفرنسيون والألمان يعانون من حالة انعدام كاملة للثقة ببعضهما بعضاً، والإيطاليون لا يثقون بأي منهما كذلك، والألمان فاقدون للثقة حتى في أنفسهم، كما أن وارسو لا تثق ببرلين، وبوخارست لا تثق ببودابست، وسكان البلقان لا يثقون البتة بأي أحد على الإطلاق، وهكذا دواليك».
وذلك هو السبب في أن وسط أوروبا يرى إيمانويل ماكرون بأنه داعية النزعة الديغولية الجديد. فعندما تحدث الزعيم الفرنسي عن «الاستقلال الاستراتيجي» أو «السيادة الأوروبية الموحدة»، من الواضح أنه يملك شغفاً هائلاً لوطنه فرنسا، التي سوف تعتبر القوة النووية الأوروبية الوحيدة إثر مغادرة المملكة المتحدة لعضوية الاتحاد الأوروبي، لكي تتزعم صدارة الاتحاد وقيادة أوروبا، وتدس أنفها في شؤون الولايات المتحدة، وتعد العدة لاحتواء وربما استيعاب الاتحاد الروسي. ولتأييد هذه الرؤية، يحاول الرئيس الفرنسي رعاية ما يسمى التحالف الناشئ أو «مبادرة التدخل الأوروبية»، والتي لا تشكل جزءاً من حلف شمال الأطلسي ولا من الاتحاد الأوروبي. وغني عن القول أن بلدان أوروبا الشرقية يفضلون كثيراً الاستمرار في الاعتماد على الحماية العسكرية الأميركية في مواجهة روسيا.
يساعدنا الطرح سالف الذكر في تفسير السبب الحقيقي وراء الزخم الجديد لدى الاتحاد الأوروبي من تشكيل الاتحاد الدفاعي الأوروبي، وأنه غير معني في واقع الأمر بدمج أو تكامل الجيوش الأوروبية فحسب، وإنما هو يتعلق بالأساس بإنشاء سوق أوروبية مشتركة لمشتريات الأسلحة. يا لها من فكرة أوروبية خالصة! تتمثل الفكرة الأولى بإنشاء صندوق الدفاع الأوروبي، الذي سوف يُخصص 13 مليار يورو (14.3 مليار دولار) لإنشائه، ثم التحرك على مسار أبحاث الأسلحة الجديدة. أما الفكرة الثانية فتدور حول «مبادرة الدفاع المنظم المستمر» المنبثقة عن «السياسة الأمنية والدفاعية المشتركة للاتحاد الأوروبي»، التي تهدف في المقام الأول إلى تنسيق جهود بناء وشراء الزوارق، والمروحيات، والطائرات المسيرة ذات الطبيعة العسكرية في كافة أرجاء الاتحاد الأوروبي.
والسوق الدفاعية الأوروبية المشتركة هي من الأفكار الجيدة. لكن الخلط بين الأسواق مع القوة العسكرية هو بالضبط ما يخشاه ويحاول إيمانويل ماكرون تجنبه بشتى الطرق، وهو من الألاعيب التي يروق للرئيس الروسي فلاديمير بوتين اللعب بها بين الحين والآخر. أما الخطر الكبير فيتمثل في أنها فكرة قد تغري الرئيس الروسي أو أمثاله في اختبار الغرب عسكرياً. وهم لن يكونوا في حاجة أبداً إلى شن عملية عسكرية واسعة النطاق، بل ربما تكون مجرد جرعة من العمليات الهجينة المدروسة بعناية وبدرجة كافية لانقسام أوروبا على نفسها. وهذا على أقل تقدير هو السيناريو الذي يشغل بال مؤسسات الفكر والرأي الأوروبية في الآونة الراهنة. ولأجل أغراض السلام، لنترك المجتمعين في فندق «غروف» الفخم يتذكرون خلال الأسبوع الحالي الواقع الأوروبي الحقيقي ومقتضياته.
* بالاتفاق مع «بلومبرغ»