إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

الراهبة المُحجبة

راهبة كاثوليكية في السبعين من العمر أرادت أن تسكن في دار للمسنين لكن المدير اشترط عليها أن تخلع ثياب الرهبنة. والحجّة هي أن لباسها ذو صبغة دينية، وهو ما يخالف النظام الداخلي ويقلق «السكينة الجماعية» للنزلاء. وتلقفت وسائل الإعلام الخبر وجعلت من الحبّة قبّة. هاج أهل اليمين وماجوا للخلط بين غطاء رأس الراهبة وبين الحجاب الإسلامي، وحار أهل اليسار في أي موقع يقفون. كم من المهازل تُرتكب باسمك أيتها العلمانية؟
تبدو قضية الحجاب مثل الأرنب الذي ينط من جعبة الحاوي في السيرك. قطعة قماش تغطّ لتطفو عند الحاجة. والغريب أنها لعلعت هذه المرة مع هجمة موجة الصقيع على البلاد. أي في الموسم الذي يتدثر فيه الجميع، نساء ورجالاً، بالأوشحة ويغطون رؤوسهم بطاقيات الصوف. ومع تجدد الجدل في كل مرّة يخيل للمرء أن الفرنسيين شعب عاجز عن الابتكار، يلوك علكة الأمس. ذلك أن حجج المؤيدين والمعترضين تتكرر منذ ثلاثين سنة. منذ ذلك اليوم من نهاية صيف 1989. حين طُردت ثلاث تلميذات من مدرستهن في ضاحية «كراي»، شمال باريس، لأنهن يغطين شعرهن.
كان العالم هادئاً نسبياً آنذاك. الحرب العراقية الإيرانية قد انتهت وجدار برلين لم يسقط بعد، والاتحاد السوفياتي قائم رسمياً لكنه منهارٌ في الواقع ولا يمثل أي تهديد. كان لا بد من لقمة دسمة لإشباع نهم الصحافة والتلفزيون وسط ذلك القفر الإعلامي. وجاءت صور فاطمة وليلى وسميرة لتنقذ الصحف من الجفاف. ثلاث تلميذات يقفن حزينات عند سور المدرسة ممنوعات من دخول الصف في أول أيام العام الدراسي.
قبل ذلك التاريخ لم تكن هناك «قضية حجاب». فعدد الطالبات اللواتي يلتزمن به لا يزيد على 240 من مجموع 400 ألف طالبة مسلمة في فرنسا. وهو ما حاول وزير الداخلية يومذاك، بيير جوكس، أن يوضحه لمجابهة التهويل الإعلامي المفرط للموضوع. لكن صحيفة محلية صغيرة صبّت الزيت على النار حين نشرت تصريحاً لمدير المدرسة جاء فيه أن الطالبات الثلاث كن يرفضن استعمال الغراء في شهر رمضان بدعوى أنه يفطرهن. وفي اليوم التالي قرأ مئات الآلاف أقوال المدير بعد أن نقلتها صحيفة «ليبيراسيون» واسعة الانتشار. وكتب محرر الصحيفة مقالاً ينذر فيه من أن مستقبل الجمهورية يتوقف على درجة حزمها تجاه إشهار المعتقدات الدينية في المؤسسات التربوية. وخلال الشهرين التاليين تم إحصاء أكثر من 500 مادة في الصحافة الفرنسية حول قضية الحجاب.
بلغ التصعيد الإعلامي ذروته عندما نشرت مجلة «باري ماتش» على صفحة كاملة صورة التقطت خُلسة لأسرة إحدى الطالبات مع تعليق يقول: «هذه العائلة المهاجرة تجسد التطرف الإسلامي المخيف». وسحبت عائلات مغاربية وتركية بناتهن من المدارس. وتقدمت بشكاوى أمام المحاكم ومجلس الدولة. وظهرت مدارس خاصة تسمح بالحجاب. ولم يبق حزب ولا مسؤول سياسي إلا وأدلى بدلوه في الموضوع، إلا الرئيس ميتران الذي لزم الصمت. ولم تخفت النار المشتعلة إلا بتدخل الحسن الثاني، العاهل المغربي الذي أوعز لمواطنيه باحترام قوانين الدولة التي هاجروا إليها.
تخفت وتشتعل. ومع كل ما قيل ويقال، تضاعف عدد المحجبات في فرنسا أضعافاً. وكبرت فاطمة، إحدى الطالبات الثلاث، وتزوجت وأنجبت أولاداً. وابنتها الكبرى ترتدي الحجاب. وحتى الراهبة الفرنسية المطرودة من دار المسنين رفضت أن تخلع غطاء رأسها. وبسبب الضجة تراجع المدير عن قراره واعتذر لها. لكنها رفضت الإقامة عنده وعادت من حيث أتت. وإذا أردت أن تروّج لقضية حاول أن تقمعها.