إميل أمين
كاتب مصري
TT

أميركا ونمو الديمقراطية الاشتراكية

هل حان أوان ظهور وجه أميركا الاشتراكي، بعد أن أخفقت الليبرالية بدرجة أو بأخرى في تحقيق الحلم اليوتوبي الأميركي، حلم المدينة فوق الجبل، الساعية لأن تنير العالم ديمقراطية وحريات، رفاهية اقتصادية وحقوق إنسان، إلى آخر السردية المثالية التقليدية؟
في مارس (آذار) الماضي، كانت واشنطن تشهد مؤتمراً للمحافظين التقليديين، والمثير أن كثيراً من الكلمات التي ألقيت فيه تناولت مصطلحات اشتراكية. الأمر الذي دعا نائب الرئيس الأميركي مايك بنس إلى أن يحذر من أن الديمقراطيين يتجهون إلى اليسار، قبل استحقاق انتخابات الرئاسة 2020.
يحاجج بنس بأن اليسار الأميركي يغلف دعواه بأغلفة من قضايا حياتية، كالتأمين الصحي، وقروض طلبة الجامعات، والإسكان الشعبي عبر القروض الميسرة، وكثير من القضايا التي يعتبرها مفاهيم اقتصادية بالية، ساهمت في إفقار الأمم، وحدّت من حريات الملايين خلال القرن الماضي.
غير أن كثيراً من الأميركيين بدورهم يذهبون إلى أن الرأسمالية البواح، والنيوليبرالية المتقدمة، ما حققت عدالة اجتماعية، في الداخل الأميركي، فالهوة بين الأغنياء والفقراء تتسع، وتتعمق، وقوة الدولار تهتز في أسواق العالم، وكبار الاقتصاديين الأميركيين يرجحون أزمة اقتصادية طاحنة عام 2020، جراء ارتفاع مديونية أميركا الخارجية، التي تجاوزت 21 تريليون دولار.
على أن ما يزعج الأميركيين اليوم، بنوع خاص، ويفتح الأبواب واسعة أمام قبول كثيرين منهم بطرح الطريق الثالث، حالة الاهتراء السياسي الحادثة على الأرض، والتي عمقتها اتهامات الديمقراطيين للرئيس ترمب الأخيرة، ومطالبتهم بإجراءات لعزله من منصبه، من جراء مكالمته في شهر يوليو (تموز) الماضي، مع الرئيس الأوكراني زيلينكسي.
ما بين حزبين كبيرين تقليدين، الديمقراطي والجمهوري، يرصد المرء صعوداً متنامياً لطبقة من الشباب الأميركي، تعرف نفسها بأنهم «الاشتراكيون الجدد»، على وزن جماعة «المحافظين الجدد»، الذين قادوا دفة البلاد منذ تسعينات القرن المنصرم حتى ولاية باراك أوباما.
يمكن القول إنه منذ 2017 وأنصار هذا التيار يلتئمون حول بيرني ساندرز الديمقراطي اليساري، ذاك الذي انقلب عليه الديمقراطيون في الانتخابات الرئاسية 2016، لصالح هيلاري كلينتون. الأمر الذي أماطت عنه اللثام وثائق «ويكليكس» والاختراقات الخارجية للحملة الديمقراطية.
بدا ساندرز من وقتها ملهماً لكثير من الشباب الأميركي، أولئك الذين قبل عقدين من الزمان كانوا يرتجفون هلعاً من مساوئ كلمة «اشتراكية»، فيما اليوم ارتفع عدد المسجلين لدى منظمة «الديمقراطيين الاشتراكيين في أميركا» بحسب وكالة الصحافة الفرنسية، من 6 آلاف إلى أكثر من 30 ألفاً، منذ الحملة الخارجة عن المألوف، التي قام بها ساندرز عام 2016، فيما ترشح أرقام جديدة اليوم، تفيد بأنه على عتبات 2020 ربما يقترب عددهم من 100 ألف.
والثابت أن الديمقراطيين والجمهوريين، ربما ينظرون إلى الأرقام بعين اللامبالاة، فما هذا الرقم الضئيل بين عدد سكان، يبلغ اليوم 325 مليون نسمة، غير أن ما ينسونه أو يتناسونه هو أن الأميركيين، بحكم الإرث الليبرالي، وسياقات الحريات التقليدية، مغرمون بتجريب كل جديد، مهما بدا تهافته في البداية، ولعل هذا ما يفسر أعمار المنتسبين إلى «الديمقراطيين الاشتراكيين الجدد»، والتي تراجعت من 60 عاماً إلى 35 عاماً، ويصفون ذلك بـ«طفرة اشتراكية».
يكاد منظّرو الجمهوريين والديمقراطيين في الوقت الحاضر أن يلمسوا نغمة جديدة، لها وجاهتها السياسية، بل الآيديولوجية أيضاً، ولا سيما أن تيار شباب الحركة على سبيل المثال يتحدث عن «معالجة جذور المشكلات، لا عوارضها»، ويضيف أحدهم: «تهمني الأسباب التي أوصلت دونالد ترمب إلى هنا، أكثر مما تهمني معارضته»، ما يعني أن جيلاً جديداً مستعداً اليوم في الداخل الأميركي لاعتناق العقيدة الاشتراكية، والدفاع عنها بشكل فعلي، وهو تغير عميق وخطير في ذات الوقت.
ما الذي يجري على الساحة السياسية الأميركية؟
المؤكد أن الاشتراكية والشيوعية كانا مفهومين كارثيّين في خمسينات، حتى ستينات القرن الماضي، وقد ولدت من ورائهما حملة عرفت بـ«المكارثية»، تطايرت فيها الألواح، حاملة أسماء من يشك في ولائهم للفكر الاشتراكي في الداخل الأميركي.
غير أن نمو الديمقراطية الاشتراكية من جديد، وبحسب البروفسورة كاثي شنيدر، الأستاذة في الجامعة الأميركية بواشنطن، يعني أن الناخبين المعارضين لترمب لا يجدون هدفهم في الحزب الديمقراطي بالضرورة، ومضيفة أن «هناك شريحة في المجتمع الأميركي تشعر أن الأحزاب السياسية لا تستجيب لمخاوفها، ومن هنا يكاد يقول الاشتراكيون لهم، نعم لدينا حل لكم».
لا يوجد تعريف واحد جامع للاشتراكية الديمقراطية، على أنه مهما يكن من شأن اختلافات التعريفات، فإن هناك حقيقة تولد على الأراضي الأميركية، تتمثل في صعود شباب إلى الكونغرس الأميركي، يؤمنون ويطالبون بأن تكون الاشتراكية الديمقراطية نهجاً اقتصادياً مطبقاً في الداخل الأميركي.
الحديث المتقدم يزعج اليوم دعاة الرأسمالية المنطلقة بغير كوابح في الداخل الأميركي، ولا سيما أن الاشتراكيين الجدد يطالبون برفع الضرائب وتقليص ثروات الأغنياء في البلاد، ومعظم هؤلاء من النساء، وربما تكون النائبة ألكسندريا أوكيو كورتيز (29 سنة) أحد أهم الوجوه اليسارية الديمقراطية الصاعدة.
هل مِن تنبهٍ لهذه التطورات الجديدة في الداخل الأميركي من كبار الإعلاميين والمنظرين السياسيين الأميركيين للداخل والخارج؟ في نهايات شهر أغسطس (آب) الماضي، كان فريد زكريا، الكاتب والمحلل السياسي، وصاحب البرنامج الشهير «GPS» على شبكة «CNN» الأميركية يفرد حلقة كاملة من برنامجه الشهير، تنبأ فيها بما وصفه «انهيار آيديولوجيا المحافظين»، وصعود نجم «التقدمية اليسارية الأميركية».
تخدم السياقات الدولتية المعولمة تيار الشباب اليساري الأميركي ولا شك، ذلك أنهم وإن كانوا لا ينوون التحول إلى حزب سياسي في القريب العاجل، إلا أنه من الواضح جداً أن لديهم رؤية لاختراق المجتمع الأميركي، إن جاز استخدام هذا المصطلح الاستخباراتي.
لم يعد الأميركيون إذن يرون في الاشتراكية المكافئ الموضوعي للتوتاليتاريا وللحكم الشمولي الديكتاتوري في الاتحاد السوفياتي والصين، قبل 3 عقود، بل طرحاً آيديولوجياً عصرانياً بلمحات ولمسات إنسانية، مجافية للرأسمالية التي سحقت الإنسان وجعلته أحد تروس ماكيناتها المتوحشة التي لا ترتوي من دماء البروليتاريا العاملة...
فهل تشهد أميركا رئيساً اشتراكياً في المدى المنظور؟