سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

ثائرات ولهن الحقّ

باسم منال وكريستال ورولا وباقي الأخريات اللواتي قتلن بدم بارد بأيدي أزواجهن نزلت النساء اللبنانيات للاحتجاج في الساحات بأعداد غفيرة. باسم اللواتي لم تجفَّ دموعُهن ولا يزلن يبحثن عن أولادهن الذين اختفوا بالآلاف خلال الحرب الأهلية ولم يعودوا، ولم تعبأ الدولة بالكشف عن مصيرهم. باسم مئات آلاف الأمهات المحرومات من فلذات أكبادهن الموزعين في المغتربات، بعد أن أصبحَ ترف الحصول على وظيفة حكراً على الزعيم وعائلته وبطانته. باسم نادين جوني، العشرينية التي توفيت بحادث سير، لأن الطرقات لم يُعبدها المتعهدون المختلسون بما يليق بالبشر، وقضت عمرها على أمل واحد، هو أن تعيد طفلها إلى حضنها الذي انتزعه منها طليقها رضيعاً، بقوة المحكمة الجعفرية، وحرمت منه، ولفظت أنفاسها وهي تشهّر بالفساد. باسم كل هؤلاء، وعشرات المطالب المحقة، ودهر من المظالم المتراكمة، والتمييز الذكوري المخالف للدستور، الذي يساوي بين المواطنين من دون تفرقة، كانت النساء المحتجات في الصفوف الأولى، وربما تجمّعن بعفويتهن من دون دعوة لجمعية أو هيئة. يكفي أن يتنادين، ويسرن في الشارع كي يتنامى عددهن ويكبر، وتنطلق حناجرهن بالهتافات.
كل الفيديوهات والصور التي انتشرت لفاتنات المظاهرات وجميلاته، هي القشرة التي شغلت بظاهرها، ونأت عن البواطن المحتدمة بالألم المعتق، لفئة دفعت الثمن الأغلى، في الحرب، دماء الأحباب، وفي السلم، حرماناً من فلذات الأكباد. لذلك أتين مع صغارهن، والرضّع منهم. كلٌ معني بما يحدث. جاءت الجدّات أيضاً اللواتي التعن طويلاً بحمم نيران أحزاب لا تزال تمارس جورها، وكأنما لا حرب انتهت، ولا دولة انتظمت. ثمة من حضّرت السندويشات لأولادها ولأصدقائهم. من نامت في الخيام مع شبانها كي تبقى مطمئنة عليهم، كما وفاء، المرأة المسنة، المريضة، التي تعتصم طوال الليل مع ابنها، وحين كان التدافع، ركلت حتى وقعت على الأرض، وصارت صورة ولدها وهو يحتضنها ويبكي واحدة من وقود المشاعر ولهبها.
هؤلاء حفيدات عنبرة سلام الخالدي، رائدة النهضة النسائية ومترجمة «الإلياذة» و«الأوديسة»، وسليلات هوغيت الخوري كالان، ابنة بشارة الخوري أول رئيس للجمهورية اللبنانية، التي تركت كل شيء وراءها، وذهبت إلى أميركا وحيدة شريدة، تنشد بوهيميتها، وحريتها، وانعتاقها، بلوحاتها التشكيلية التي دخلت أكبر متاحف العالم. كل واحدة منهن تعرف أنها تستند إلى جرأة الأديبة زينب فواز، ونضارة قلم جوليا طعمة دمشقية التي كانت رائدة وصحافية منذ مطلع القرن الماضي، وبسالة نظيرة زين الدين التي كتبت عن «السفور والحجاب» وهي لم تبلغ العشرين. التاريخ لا يذهب هدراً، والتجارب تراكم وتختمر، مع ذلك لم تعر السلطة النساء اللواتي قدن الجمعيات والتحركات المدنية المطلبية، طوال السنين الفائتة، اهتماماً يذكر. طالبن بحقهن في الحماية من العنف المنزلي على الأقل، وإنصافهن أمواتاً حين يتحول الزوج إلى وحش لا يرد، ولم يصغ لهن إلا لماماً. أردن حمايتهن من الزواج المبكر، وجنسية لأولاهن حين يتزوجن من غير لبناني، فسخر منهن.
لم تصغِ السلطة إلى النساء ومطالبهن، وكلما كانت تنحني أمام حق، لا تعطه إلا مشوهاً مجتزأً، مبتورة أطرافه، ليبقين في حاجة إلى استكماله. مع أن النساء يمارسن حقهن في الانتخاب منذ عام 1952. وتمكنّ من انتزاع مطلبهن هذا بعد 30 سنة من النضال. وهنَّ على أي حال لم يعطَ لهن شيء بمنة من أحد، وصرن بفضل اجتهادهن، ومثابرتهن فقط، جنباً إلى جنب مع الرجال، يعلمن في الجامعات ويجلسن قاضيات على قوس المحكمة، وسفيرات، ويقدن الطائرات ومكتشفات في المختبرات، ومتفوقات في نتائجهن التعليمية ومعروفات بنزاهتهن حيث تعملن. كل ما حققنه جاء بسواعدهن ومن شحذ عزائمهن.
عجزت الحركات النسائية، وهي تحاول إقناع زعماء الطوائف بالكوتا النسائية، غلبت وهي تقنعهم بالتخلي عن حساباتهم العصبية الضيقة، وهم يصوتون على قرارات يمكنها أن تعطي المرأة أمناً وشيئاً من الاستقرار العائلي، وقانوناً مدنياً يسمح لهن باختيار نمط الحياة الذي يردن عيشه.
الهوة كبيرة بين ما أنجزته المرأة على الأرض، وما يعترف لها به. بين قوتها على تحريك المجتمع والتأثير فيه، وتمثيلها الهزيل المعيب في المجلس النيابي والحكومة. فكل سيدة إلا استثناء، جيء بها إلى البرلمان أو الحكومة، لتمثل رجلاً وتنطق بلسانه، لا لتتحرك بما تمليه عليها قناعاتها. وهذا أسوأ أنواع قهر الإرادة، وسلب الحرية.
نزلت النساء أفواجاً، كن في الأحيان قائدات للحراك، وناصحات ومنكّهات للمظاهرات، قادرات على إخراجها من جوها المشحون إلى لطف وظرف، الجميع بحاجة إليهما كي تستمر الاحتجاجات دون كلل أو كبير غضب وجلافة. وكما في بيوتهن، نظفن الساحات، وفي مشهد مؤثر حملن الإسفنجات والصابون وحففن ما علق من سواد الحرائق وبقايا الإسمنت على جدران نفق نهر الكلب، كي يخرج من انتفاضته أزهى وأحلى.
يريد الدستور اللبناني للمرأة أن تكون كاملة الحقوق والإنسانية. وهي من ناحيتها، قدمت في بلد حروبه أكثر من سلمه، وشجونه تفوق أفراحه بأشواط، ما تنوء به الجبال، بسبب الخوف والتهديدات المستمرة، والقلق الذي لا يستكين. ومع ذلك أراد هذا النظام الذكوري الطائفي، أن يبقيها هامشية، ونسي قادته أنها بمرور الوقت أمسكت بزمام أمور كثيرة، بعد أن هجّروا، زوجها وابنها وربما والدها قبل ذلك، وصارت معركتهم بالدرجة الأولى معها. وهذا ما لم يكن بالحسبان.