صيحة «كلهم تعني كلهم» تبدو الهتاف الأهم بين ما رددته جموع الشباب الغاضب في لبنان. الأرجح أن يتفق مع هذا التقييم لجوهر أزمة نُظم عدة في ديار العرب، كل من ينظر إلى أساس الخلل، ولا يكتفي بمعاينة ما يطفو على السطح، فيرى بثاقب بصر، كما لو أنه ينظر من خلال عين مجهر، أن جمع الساسة المُصرّين على رفض منطق التغيير، هم في واقع الأمر السبب الرئيس وراء كل ما أصاب بعض بلاد العالم العربي، من فوضى واضطراب في المشارق كما المغارب. في هذا السياق يروق لأناس استحضار مثلٍ سائر على ألسنة كثير من الناس يقول إن «دود الخلّ منه وفيه». أكيد.
يجوز ما سبق على ما شهد لبنان والعراق طوال أيامٍ وليالٍ لأسبوعين مضيا، ومن الجائز تخيّل أنه مستمر حتى يحقق المُستَغضَبون، جراء ما لحق بهم من مظالم نكد العيش ما لم يعد يُطاق. مَن شاء أن يعتبر يمكنه أن يجد الاعتبار، إذا أراد، فيما حصل من قبل، عما قريب، في السودان والجزائر. ثم، من بيروت ومن بغداد، وقبلهما الخرطوم والعاصمة الجزائرية، ربما يصح افتراض أن توجّه أحداث الغضب الشبابي هذه، رسالة إلى بعض النُّخب السياسية في أكثر من منطقة، علّها تفيق قبل فوات الأوان، وتقرأ بوضوح دلالات ما يجري غير بعيد عنها، ثم تتأمل ما تفصح عنه حكمة ترددت منذ قديم الزمان، وتنصح من ينسى أن «إياكم وثورة الحليم إذا غضب». تُرى، هل ثمة جنوح، أو تجنٍّ، في ترشيح صفوة قيادات حركة «حماس»، سواء التي تحكم قطاع غزة، أو المقيمة خارجه، كي تكون أول المتلقين للرسالة؟
كلا، لستُ أظن ذلك. فرغم الإبقاء على هامش الخطأ فيما أزعم، ومن ثم الاستعداد لتقبّل أي تصحيح، تمكن الاستعانة بمثل مستوحى من قصة وردت في كتاب «العهد القديم»، ويردده قوم شكسبير عندما يضجر أحدهم من الصبر على مَن لا يستطيع رؤية الأشياء بوضوح، فيزعق قائلاً:
THE WRITINGS ON THE WALL
بمعنى، ألا تستطيع أن تدرك الشواهد المكتوبة على كل جدار من حولك؟ كما أمثولة الجدار في المثل الإنجليزي، يمكن القول إن ما ينبئ عن تنامي غضب الناس، وارتفاع مؤشر قياس الضغط على الأعصاب، بفعل تكرار تشدد «حماس» في شروط التصالح مع «الإخوة الأعداء» في حركة «فتح»، يوشك أن يملأ جدران القطاع، حتى إنها تكاد تنهار فوق كل الرؤوس، وبلا سابق إنذار.
نعم، صحيح أن ما ينشأ عن ارتفاع تكاليف العيش يتربع على رأس قائمة المشكلات في أي مجتمع. وصحيح أن الجائع قد يقدم على أي فعل طائش، لكنّ آلام الجوع حين يبطش بالعقول، ربما تخفف العقاب في حكم القاضي المنصف. كل ذلك يصح حيثما حل الفقر، فشاع خراب البيوت، واتسع تفشي البطالة بين الشباب، إنما الأرجح ألا يجنح أحد عن الصواب، أو يظلم قيادات عدة داخل «حماس»، إذا رأى أنها مضت بعيداً في تجويع الفلسطينيين سياسياً، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بإتمام المصالحة بحق، والتئام قطاع غزة بالضفة الغربية، تماماً كما كان الوضع قبل انتزاع الحكم بقوة السلاح صيف 2007. أما آن لأصحاب القرار الأفاضل في «حماس»، إطفاء عطش الناس للوحدة، قبل الاتفاق على كيفية إجراء انتخابات ليس من معنى لها في ظل الانقسام؟
لكن، ما علاقة ذلك بما يجري في بيروت وبغداد، وأين الرسالة؟ إنها في صيحة اللبنانيين: «كلهم تعني كلهم»، وفي انتفاضة العراقيين ضد هيمنة الحكم الإيراني على الحاكمين بلدهم. بيد أن المسألة، كما أراها، ليست في التخلص من شخص هذا أو ذاك. الأرجح أن «كلهم» تخص كل معرقلي الإصلاح، وكل مؤدلجي ما يعيق التغيير نحو الأفضل. ضمن هكذا فهم، يمكن القول إن ما ينطبق على قيادات في «حماس»، في شأن عرقلة التصالح الفلسطيني، يحق كذلك على زعامات داخل حركة «فتح»، وعلى آخرين في فصائل وأحزاب فلسطينية عدة. بل أبعد من الهمّ الفلسطيني، ربما يصح القول إن صيحة «كلهم تعني كلهم»، يجب أن يصل صداها إلى كل من يعرقل التصالح بين أبناء ليبيا، التي حلّ فيها أيضاً خراب اقتتال الآخرين فوق أرضها، وعلى حساب مصالح أبنائها.
8:2 دقيقه
TT
من بيروت وبغداد إلى غزة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة