مقال الأسبوع الماضي الذي تعرض للاختلاف التاريخي حول الطبع الأولي للإنسان، أثار جدلاً غير قليل. ثمة قراء رأوا أن الخير هو الطبع الأصلي للإنسان، وثمة من قال بالرأي المعاكس. هذا الجدل لفت انتباهي إلى مسألة متصلة بنقاش آخر يدور في بلدنا، منذ صدور «لائحة الذوق العام» أواخر الشهر الماضي. وتضمنت اللائحة عقوبات مالية على سلوكيات غير لائقة عرفياً، لكنها لم تصنف في الماضي جُنحاً أو جنايات.
بيان المسألة على النحو الآتي: نفترض أن العقوبات التي يضعها القانون – أي قانون، وأي عقوبة - غرضها ردع الأفراد عن القيام بالفعل المحظور. يهمني الإشارة هنا إلى أن بعض العقوبات في التاريخ القديم كانت تستهدف الانتقام من الجاني، كما أن البعض الآخر استهدف تمويل خزينة الحاكم. لكن هذه العقوبات لم تعد قائمة في عصرنا الحاضر.
خلاصة القول، إن العقوبات التي يعرفها عالم اليوم، غرضها - في الأعم الأغلب - هو الردع، وفي نهاية المطاف تقليص الخروج عن القانون أو العرف إلى أدنى مستوى ممكن.
حسناً... ما هو معنى «الردع»؟ أي ما هي طبيعة الانعكاس إلى تحدثه العقوبة في نفس الإنسان، بحيث يمتنع عن الفعل المحدد؟
أعلم أن بعض القراء سيقولون في أنفسهم: هذا كلام زائد لا خير فيه؛ لأننا في نهاية المطاف نتحدث عن «امتناع الفرد عن فعل بعينه» وهذا ما يحدثه الإعلان عن عقوبة ما.
إني أدعو هؤلاء السادة للصبر قليلاً، لأن فهم المسألة قد يفتح أذهاننا على بدائل العقاب، بل بدائل الردع بشكل عام. من المعلوم أن الردع ينطوي - بالضرورة - على نوع من القسر الخشن، وربما المذل. والإنسان يكره المخاشنة والإذلال، ويفضل عليها المحاسنة والملاينة.
أقول هذا تشجيعاً للقارئ العزيز على النظر في الشرح التالي من هذه الزاوية، أي إمكانية العثور على وسائل لمنع الأفعال الخاطئة بالتوجيه اللطيف بدل القسر المذل.
لقد كنت أفكر في هذه النقطة حين التقطت أذني جانباً من حديث لمفكر معاصر، يشير فيه إلى الفارق الواسع بين المحاسبة accountability والمسؤولية responsibility. الإنسان محاسب على أفعاله، كما أنه مسؤول عنها.
ترتبط المحاسبة بعقلانية الإنسان. الإنسان كائن عاقل بمعنى أنه يحسب العواقب المترتبة على أفعاله، فيختار الفعل الذي ينتهي إلى عواقب حسنة، ويتجنب الفعل الذي ينتهي إلى عواقب سيئة. والأفعال الحسنة والسيئة هنا، هي ما تقبله المجتمع كفعل حسن، وما رفضه كفعل قبيح. كما أن العقاب قد يكون جسدياً أو مالياً، وقد يكون مقتصراً على القطيعة والإنكار. تتمظهر العقلانية إذن حين يكون الإنسان عضواً في مجتمع أو مدينة، والأفعال المعنية هي تلك التي تؤثر على أعضاء آخرين أو على أملاك مشتركة لأعضاء المجتمع.
أما المسؤولية فترتبط بحقيقة أن الإنسان كائن أخلاقي. أخلاقي بمعنى أنه يمتنع - من تلقاء نفسه - عن الأفعال التي يراها ضارة بالغير، أو غير لائقة أو مقبولة، حتى لو لم تكن ضارة بشخص معين. ويقدِم على الأفعال التي تفيد الناس حتى لو لم يستفد منها هو ذاته.
دعني أقل كخلاصة: إن من يرى الشر طبعاً أولياً للبشر، ينظر للردع كمحرك لعقلانية الإنسان. ومن يرى الخير طبعاً أولياً للإنسان فهو ينظر للردع كعامل استثارة لأخلاقية الإنسان.
وما زال في الحديث بقية نعود إليها في وقت آخر إن شاء الله.
7:37 دقيقه
TT
في معنى الردع وعلاقته بالطبع الأولي للبشر
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة