خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

لحظة انهيار الإسلام السياسي

يشير كثيرون إلى غزو صدام حسين للكويت على أنه الضربة القاصمة التي نكست رايات المشروع العروبي. تنتكس الرايات حين تنتكس الوجوه خجلاً إن أرادت رفع شعاراتها. لم يكن غزو الكويت انهزاماً فجائياً للمشروع. سبقته «النكسة»، و«أيلول الأسود»، والحرب الأهلية اللبنانية. لكنه كان قاصم الظهر فنال نيشان التأريخ.
النقطة الجوهرية أن المشروع انهار بمجرد أن خالف شعاراته مخالفة صريحة، لا لبس فيها، ولا تبرير لها.
المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما، يؤرخ لبداية سقوط المشروع الإسلامجي بالهجمات على نيويورك وواشنطن. قد يكون هذا صحيحاً من وجهة نظر غربية، على اعتبار أنه كان نقطة فاصلة في إدراك المدى المتوحش الذي يحمله هذا المشروع.
لكنه بالتأكيد ليس صحيحاً في الدول المسلمة، من جهتين.
أولاً، باللغة العربية، قدمت السردية الإسلامجية المراوغة هذا الفعل، على أنه مشروع بطولي، وعلى أنه النكاية الأكبر في صفوف «الأعداء»، وعلى أنه يثبت قدرة فئة قليلة على النكاية في فئة كثيرة. قدمته على أنه داود في وجه جالوت. وبالتالي أسفر المشروع عن تبني عدد أكبر من المجموعات، ومنها مجموعات عروبية قديمة، للتفكير الجهادي الإسلامي، لا سيما أن ما سماها القاعديون غزوة نيويورك وواشنطن أفرزت الزرقاوي وجماعته، ثم أبا بكر البغدادي وجماعته.
ثانياً، إلى الغرب، أنتج العقل الإسلامجي المراوغ سردية مفادها بأن «القاعدة» مجرد إفراز تسببت فيه «الأنظمة المستبدة»، وأن الحل الأمثل هو وصول إسلامجية إلى الحكم في بلاد المسلمين.
وفعلاً نجحت السردية في إقناع الغرب بالمحاولة. ورغم فشل التجربة الأولى في العراق، على يد الأحزاب الشيعية، ثم التجربة الثانية في غزة، على يد «حماس» السنية، وجد الغرب في الموضوع فوائد جمة؛ أبرزها تحول الصراع إلى صراع داخلي. الإسلامجية في السلطة لا يجرؤون على الهجوم الخارجي الذي سيدفعون ثمنه مباشرة. «حماس» صارت أقل اهتماماً بـ«المقاومة». «حزب الله» أغلق الملف الإسرائيلي منذ 13 عاماً. العراق فيه ميليشيات مقربة من السلطة تحتضن رئيس «سرايا القدس» الإيراني، لكنها لا تفعل شيئاً للقدس نفسها.
ساعد على تمكين هذه السردية وصول رجب طيب إردوغان، إلى الحكم في تركيا، وتبني قطر الثرية لها منذ النصف الثاني من التسعينات، مع ما تملكه واستثمرت فيه من آلة إعلامية ضخمة، ومن توغل في الأكاديميا. فصار لدينا نموذج الإرهابي المنمق؛ ينظر إليه الغربي فيرى بدلة وكرافتة، واستوديو وإضاءة، في الدوحة أو لندن وإسطنبول، ويرى شخصاً لا يمانع في شرب الخمر وصحبة النساء. فيستبعد تماماً أي صلة بينه وبين الصورة النمطية لرجل كث اللحية في كهف مطموس الملامح في أفغانستان.
كانت السردية، ورد الفعل الغربي المرحب، مغرية لمزيد من الشباب في المجتمعات المسلمة، لكي يلحقوا بركب «الإرهابي المنمق»، الذي يظهر في الإعلام تحت لقب صحافي أو ناشط أو نصير للديمقراطية «prodemocracy».
تجاوز المشروع الإسلامجي في ظل هذه السردية ما تجاوزه المشروع العروبي في مآسيه السابقة لغزو الكويت. تجاوز المشروع الإسلامجي قتل المدنيين، وتجاوز إغارة «حماس» على «فتح»، وإغارة «حزب الله» على بيروت، والحرب الأهلية السورية، ووجد مبررات لكل هذا.
لكن ما حدث مؤخراً في سوريا ولبنان والعراق هو قاصم الظهر للمشروع الإسلامجي. اللحظة الكاشفة التي خالف فيها شعاراته مخالفة صريحة، لا لبس فيها، ولا تبرير لها:
الشق السني منه، الذي عاش على شعارات الإخوة الإسلامية، تحت راية الدولة الإسلامية، أثبت أنه مشروع سياسي لخدمة إسلام واحد، الإسلام الرومي العثماني. بلا مبرر ولا مسوّغ. فلا يستطيع إسلامجي سني أن يدعي أن تركيا أكثر إسلاماً من مصر - مثلاً - فضلاً عن أن تكون أكثر إسلاماً من بلد الحرمين. سبق لهم أن ادعوا ذلك أيام الجهاد في الكهوف. لكن كيف يبررون تحويل إسطنبول إلى قبلة الإسلام، وهي الدولة العلمانية التي لا تحكم بالشريعة، ولا تقيم الحدود، ولا تمنع الخمور، ولا تحظر العري على الشواطئ؟!
لا مبرر. هو مشروع لخدمة الرغبات التوسعية العثمانية، باسم الإسلام.
الشق الشيعي منه، وأقصد إيران، وقف على الضفة الأخرى من شعاراته المعلنة. فلم يعد نصيراً للمظلوم الذي يرفع شكواه. بل تحول إلى سلطة تعمق الضيم والضنك، وتدافع عن الفاشل والفاسد إن كان حليفاً. وجهتها الوحيدة ليست انتصار الحق على السيف. بل انتصار رغبات إيران السياسية.
لا مبرر إذن. هو مشروع لخدمة الرغبات التوسعية الصفوية، باسم الإسلام.
تعرف اللحظة القاصمة حين تصل الفكرة إلى المواطن العادي، فلا يعود الموضوع طرحاً نخبوياً من أهل الاختصاص، ولا ذوي المعرفة الداخلية بأمور الإسلام السياسي بسبب تجارب سابقة.
وهذا ما شهدناه مؤخراً؛ المواطن العادي في المجتمعات المسلمة، سنية أو شيعية، التقط هذا التناقض وصار يتحدث عنه. هذه لحظة سقوط الإسلام السياسي. لحظة انكشاف العناصر المحلية الداعمة أمام أعيننا جميعاً، إلا المحازبين. اللحظة التي يجب أن تدركها الدولة الوطنية لتعميق معناها وهويتها. النجاح هو أن تقود وطنك بأبنائه إلى الأفضل، لا أن تسعى للزعامة على آخرين، ولا أن تستدعي غرباء لقيادته نحو مصالحهم. لقد سقط المشروع العروبي، لقد سقط المشروع الإسلامجي، وحان وقت الدولة الوطنية.