جمعة بوكليب
كاتب ليبي؛ صحافي وقاص وروائي ومترجم. نشر مقالاته وقصصه القصيرة في الصحف الليبية والعربية منذ منتصف السبعينات. صدرت له مؤلفات عدة؛ في القصة القصيرة والمقالة، ورواية واحدة. عمل مستشاراً إعلامياً بالسفارة الليبية في لندن.
TT

بعد فشل ماي... هل ينجح جونسون؟

أخيراً، وبعد أكثر من ثلاث سنوات ونصف السنة من الانتظار، حدث ما كان متوقعاً، واتفق النواب على عقد انتخابات برلمانية أخرى، على أمل الخروج ببريطانيا من نفق «بريكست»، وصداعه المرهق، وما أحدثه من انقسام خطير سياسياً واجتماعياً.
ما يميز الانتخابات القادمة هو انعقادها في شهر ديسمبر (كانون الأول)، على بعد مرمى حصاة من الاحتفال بأعياد الميلاد الغربية. الانتخابات وموسم الأعياد الديسمبري ليس من المعهود عليهما السير معاً يداً بيد. وتاريخياً، لم تشهد بريطانيا منذ ما يقرب القرن من الزمن انتخابات في شهر ديسمبر. آخر تلك الانتخابات عقد عام 1923 حين قرر رئيس الوزراء المحافظ ستانلي بلدوين إجراء انتخابات خاطفة على أمل أن يحظى حزبه بأغلبية تتيح له تنفيذ سياسته المتعلقة بفرض ضرائب على السلع المستوردة من خارج الإمبراطورية البريطانية. ولسوء حظه، سارت الرياح بعكس توقعاته، وعاد إلى برلمان معلق، انتهى بتشكيل حكومة وحدة وطنية بقيادة الزعيم العمالي رمزي ماكدونالد. رئيس الوزراء الحالي بوريس جونسون على وعي بذلك التاريخ البعيد نسبياً، وعلى دراية، كذلك، بالتاريخ القريب جداً، وبما حدث للسيدة تيريزا ماي قبله، حين راهنت على إجراء انتخابات خاطفة عام 2017، فعادت إلى البرلمان جريحة، تتوكأ على أصوات نواب الحزب الديمقراطي الاتحادي.
رهان السيدة ماي على خوض انتخابات خاطفة جاء بناءً على تنبؤات استبيانات الرأي العام التي وضعتها في موضع متقدم، وبنسبة تقارب 20 في المائة. وحين قرر السيد جونسون خوض غمار الانتخابات لم تغب عن حساباته أرقام استبيانات الرأي العام ووضعه المتقدم، وإن كانت بنسبة تقل عن السيدة ماي، لكن السياسي لا يكون سياسياً ما لم يكن مقامراً، والسيد جونسون لا تنقصه روح المغامرة، خصوصاً أن تجربة الأشهر الثلاثة الماضية وضعته أمام حقيقة أن الحكومة في نظام ديمقراطي برلماني لا تستطيع أن تفعل شيئاً ما لم تكن على علاقة وطيدة بعلم الحساب، وضرورة حصولها على أغلبية مريحة من مقاعد البرلمان البالغ عددها 650 مقعداً.
الانتخابات القادمة، وفقاً لآراء المعلقين السياسيين، ستكون الأكثر تعقيداً وصعوبة، بسبب طبيعة التجاذبات الحزبية، والانقسامات التي أوجدها «بريكست» بين الناخبين. الكثيرون منهم يتفقون على أن الاحتكام إلى الناخبين كان سيصير أفضل لو جاء بعد شهر يناير (كانون الثاني)، والانتهاء من تمرير قانون الخروج من الاتحاد في البرلمان. وتبريرهم أنه من الأفضل لو لجأ بوريس جونسون إلى الناخبين بأجندة برنامج سياسي لا علاقة له بالماضي، بل يضع التفاصيل لمستقبل ما بعد الخروج. وبناءً على ذلك، فإنهم يرون أن حظوظ المحافظين في العودة إلى البرلمان بأغلبية كبيرة، يظل أمراً معلقاً بين يدي الظروف، وسير الرياح. استبيانات الرأي العام تشير إلى تقدم المحافظين بنسبة 12 في المائة، وإذا تحقق ذلك في صناديق الاقتراع فهذا كافٍ لعودتهم إلى البرلمان الجديد بأغلبية مريحة. لكن ذلك ليس محتملاً؛ لأن استبيانات الرأي العام أثبتت بالتجربة مغبة الاعتماد عليها، هذا أولاً. أما ثانياً، فإن المحافظين سيدخلون الانتخابات بحزب منقسم، مثلهم مثل حزب العمال. ذلك أن «بريكست» وضع إسفيناً فيما كان سابقاً غير قابل للنقاش، ونعني بذلك الولاء الحزبي مناطقياً. فهناك دوائر انتخابية معروفة بولائها تاريخياً للمحافظين لكنها صوّتت بأغلبية مع البقاء في الاتحاد الأوروبي، وهناك دوائر انتخابية معروفة بولائها تاريخياً للعمال، لكنها صوتت بأغلبية مع خروج بريطانيا من الاتحاد. أضف إلى ذلك وجود حزب الديمقراطيين على اليسار من المحافظين وخوضه الانتخابات ببرنامج معاد للخروج، وبوعد بإعادة إجراء الاستفتاء. ووجود حزب «بريكست» على اليمين من المحافظين وبرنامجه الداعي إلى الخروج من دون اتفاق، الأمر الذي يعني ضمنياً أن الأحرار الديمقراطيين قد يتمكنون من قضم قطعة كبيرة من أصوات الناخبين الرافضين الخروج من الحزبين، وأن حزب «بريكست» بقيادة نايجل فاراج سيكون عبئاً ثقيلاً وإضافياً على كاهل حزب المحافظين، ومن المحتمل حصوله على نسبة لا بأس بها من أصوات الناخبين المحافظين. وإذا سارت الرياح بما يشتهي السيد فاراج فإن حظوظه كبيرة في استقطاب الناخبين الموالين للعمال، خصوصاً في مدن الشمال التي تدعم الخروج من الاتحاد. هناك، أيضاً، الحزب القومي الاسكوتلندي وحيث تشير آراء المعلقين السياسيين إلى احتمال استعادته ما خسره من مقاعد في انتخابات عام 2017، وإن صدقوا في توقعاتهم، فإن وجود المحافظين في اسكوتلندا مهدد، ووضع العمال ليس أفضل حالاً.
هذا التشابك المشتجر في تضاريس الخريطة الانتخابية يجعل من الصعوبة بمكان على السيد جونسون ضمان العودة إلى البرلمان محمولاً على أصوات أغلبية مريحة، ويجعل من الممكن، أيضاً، في حالة لجوء الأحزاب الصغيرة إلى التحالف، والتصويت التكتيكي، أن يحصل الأحرار الديمقراطيون على عدد مقاعد أعلى مما متوقع؛ مما يعني عودة الجميع إلى ردهات برلمان معلق، وأن الحزب الأكثر مقاعد لن يكون قادراً على تشكيل حكومة بأغلبية، وبالتالي، الدخول في نفق المفاوضات، بغرض الوصول إلى تشكيل حكومة ائتلافية في وضع مشابه لما حدث في انتخابات عام 2010.