د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

{نوبل} تحارب الفقر

الفقر؛ الموضوع الذي شغل الاقتصاديين لعقود طويلة من الزمن، فدرسوه ومحّصوه من جوانب ذات عدد غير منتهٍ. وربطوه بعوامل كثرت حتى أصبح بعضها غريباً بعض الشيء. فدرست الأبحاث الاقتصادية علاقة الفقر بنمو الاقتصاد، وبالتنمية الاجتماعية، وبالصحة العامة، وصحة الأطفال ونموهم، والصحة العقلية، ومعدلات الانتحار. كذلك درست تغيرات الفقر عبر الزمن، وانتشاره الجغرافي في الدول، وتأثّره الإيجابي والسلبي بالعوامل الاقتصادية. حتى بلغ ببعض الدراسات الصينية أن اختبرت علاقة الفقر باختيار نوع غاز الطبخ المستخدم في المنازل!
وما زاد الزمن الدراسات المتعلقة بالفقر إلا كثرة، ولهذه الكثرة مبرراتها الكثيرة، فعلى سبيل المثال، انخفض عدد من يعيشون تحت خطر الفقر من 36 في المائة عام 1990 ليبلغ 10 في المائة عام 2015. وصاحب هذا الانخفاض نمو في الاقتصاد العالمي وعدد السكان كذلك. وتركز كثير من هذه الدراسات في دول شبه الجزيرة الهندية والبرازيل والصحاري الأفريقية، التي يعيش فيها السواد الأعظم من الفقراء في العالم الذين يزيد عددهم اليوم على 700 مليون، وهم بالعادة أول من يتأثرون بالصدمات والتغيرات الاقتصادية.
وبمعرفة هذا الاهتمام الاقتصادي بالفقر، لم يكن من المستغرب أن تخصص جائزة نوبل لهذا العام لمن توصل إلى نتيجة جديدة في محاربة الفقر. وفاز بالجائزة هذا العام ثلاثة علماء أميركيين من أصول مختلفة؛ وهم: أبهيجيت بانيرجي، وإستر دافلو من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ومايكل كريمر من جامعة هارفارد. ونهج الاقتصاديون الثلاثة منهجاً مختلفاً في دراساتهم، مبتعدين عن الأسلوب النمطي في الدراسات الاقتصادية الذي عادة ما يدرس الأسباب العامة للفقر، مثل ربط سنوات التعليم بشكل عام بالناتج الإجمالي للفرد، أو علاقة النظام الصحي بالنمو الاقتصادي للبلد.
وسلك الباحثون الثلاثة مسلكاً مختلفاً بتفكيكهم هذه الأسباب العامة إلى أجزاء أصغر تسهل دراستها، فبدلاً من دراسة الأثر الاقتصادي للإنفاق على المدارس، درسوا عوامل أكثر تفصيلاً واستدامة؛ مثل أثر التعليم الخصوصي لذوي الأداء الدراسي المنخفض، وأثر برامج التعليم المتضمنة للكومبيوتر، وتعدوا ذلك إلى أسباب غير تعليمية مثل أثر توفير الأدوية للطلاب المدارس على أدائهم التعليمي. كما درسوا أيضاً الأثر الاقتصادي طويل المدى للبرامج الحكومية الموجهة لسلوك معين للمواطنين مثل استخدام الأسمدة الزراعية، أو تقديم قروض ميسرة للمناطق الفقيرة.
وتوصل الباحثون إلى أن اختلافاً في الفجوة الإنتاجية بين أصحاب الإنتاجية العالية وأقرانهم ذوي الإنتاجية المنخفضة باختلاف الدول، حيث تكبر هذه الفجوة في الدولة الفقيرة، بينما تصغر في الدول الغنية. كما توصلت الدراسة إلى أن الإجابة عن الأسئلة الأصغر لحل الفقر أكثر إمكانية من دراسة الأسباب العامة للفقر التي عادة ما تتفرع مسبباتها. كما أوصت الدراسة بأن تقوم الدول الفقيرة بحل المشاكل التي تتسبب في شقاء المواطنين، مثل الصحة والتعليم بدلاً من الالتفات بشكل تقليدي إلى إنشاء المصانع وتحفيز التجارة، موضحة أن حل هذه المشاكل يحمل تأثيراً أكبر وأكثر إيجابية على النمو الاقتصادي من الأسباب المباشرة المعتادة.
إن النظر في أبحاث الفائزين في جائزة نوبل لهذا العام يدرك عناء وصعوبة الخروج ببحث علمي نافع وفعال، حيث يتبين من خلال التفاصيل التي التفت إليها الباحثون الثلاثة، تعقيد وصعوبة جمع البيانات في دراساتهم، فاستغرق جمع هذه البيانات جهداً كبيراً ووقتاً طويلاً، حيث تعود بداية دراساتهم الاقتصادية إلى منتصف التسعينات الميلادية ولأكثر من دولة بمعايير مختلفة، كما أنهم انتهجوا طريقة غير تقليدية في دراسة المؤثرات على الفقر، فبدلاً من دراسة أنظمة حكومية حالية، تقدم الفريق البحثي بكثير من الاقتراحات على الحكومات، مثل الحكومتين الهندية والكينية، ودراسة نتائج هذه التغيرات، التي لم تكن مشجعة في البداية، واتضح أثرها الإيجابي المستدام بعد ذلك، وتسببت هذه الدراسات بشكل مباشر في خروج آلاف من سكان هذين البلدين من تحت خط الفقر.