عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

«كوا بونو»... مَن المستفيد؟

حرية التعبير والتظاهر لا تنفصل عن مجموعة الحقوق المدنية الإنسانية للأفراد والجماعات في أم الديمقراطيات، والقانون يحمي هذه الحقوق.
القانون يُلزم مَن ينظّم مظاهرة إبلاغ جهات مسؤولة كالبوليس وإدارة المرور، والإسعاف، والمطافئ والبلدية المحلية. فمظاهرة تعطّل سير المرور تؤثر على خدمات تعتمد على سرعة التنقل كالإسعاف أو المطافئ، أو حتى عمليات إصلاح مواسير المياه أو المجاري.
في حمى سيطرة التغيير المناخي على الرأي العام ظهرت المجموعة الفوضوية «تمرد الفناء - extinction rebellion» التي تبرر خرقها للقانون كوسيلة تبرر الغاية «النبيلة». فالعالم يوشك على الفناء إذا لم تنهِ بريطانيا استخدامها لمحروقات الكربون نهائياً في ستة أعوام فقط.
في الأسابيع الماضية احتلوا جسر وستمنستر معطّلين وصول مرضى السرطان لجلسات العلاج، فبدلاً من خمس دقائق على الأقدام اضطر المرضى إلى رحلة حافلة تستغرق خمسين دقيقة تلتفّ أربعة أميال عبر جسر بعيد للعبور للناحية الأخرى، أو تاكسي بعشرين جنيهاً.
الاحتجاج على استخدام منتجات الكربون أدى إلى حرق المزيد من أطنان الوقود بسبب إغلاقهم الطرق.
ازدادت الانتقادات لبوليس العاصمة لتهاونه مع محتجي جماعة «تمرد الفناء» في خرقهم للقانون. بعضهم قُبض عليه لتسلق طائرات بقصد تعطيل الطيران، وخرجوا بكفالة في انتظار المحاكمة، ليخرقوا القانون مرة أخرى. وتساءل المعلقون: أليس من شروط الكفالة عدم خرق القانون، كيف لم يعترض محامي البوليس على الكفالة؟
ضاعت تحذيراتنا كمعلقين من فقدان البوليس ومؤسسات القانون احترام المواطنين العاديين بعد نفاد صبرهم. لكننا أقلية والوسائل الصحافية كلها يسيطر عليها مزاج حمى التغيير المناخي.
احتجاجات «تمرد الفناء» في السياق التاريخي السياسي الاقتصادي تبدو صراعاً طبقياً معكوساً تقوده نخبة الأقلية المسيطرة على الثروة ووسائل الإنتاج ضد الأغلبية من الطبقات الكادحة الفقيرة.
«متمردو الفناء» في ندواتهم ومقابلاتهم التلفزيونية يبدون كلهم من البيض الإنجليز. طريقة الكلام، هي أول عنصر يميز الانتماء الطبقي قبل عوامل أخرى كالملبس والإمكانيات المادية. حديث المتظاهرين يفضح انتماءهم إلى الطبقات الميسورة صاحبة الامتيازات.
قبل يومين أذاب استفزاز أبناء الذوات ثلج البرود الإنجليزي عندما تسلق اثنان منهم، متفرغان للتظاهر، عربات المترو في محطة «كاننغ تاون» في ساعة الذروة الصباحية محاولين تعطيل سير قطار كهربائي لا يلوث البيئة. المنطقة يسكنها عمال فقراء باليومية، وخادمات تنظيف وصنايعية. ولأن «قطع الأرزاق مثل قطع الأعناق» فقد سحب الفقراء متظاهري البيئة من سطح القطار، ولولا تدخل أولاد الحلال من موظفي المترو لكانت العلقة التي تلقاها أولاد الذوات في سخونة جهنم. وكان ابن ذوات آخر يصوّر الاحتجاج لغرض الدعاية قد تعرض للضرب وهو يصرخ «أنا صحافي محايد» لكنه لم يحمل بطاقة صحافية تحميه من غضب مَن قُطعت أرزاقهم.
موقع «متمردي الفناء» يعلن تقديم تمويل قدره 400 جنيه (517 دولاراً) أسبوعياً لمن يتفرغ للتظاهر ويكون عمله تعطيل المواصلات وإغلاق الشوارع.
فمَن هؤلاء؟ ومن أين يأتي التمويل؟
كما ذكرنا سابقاً مصالح تجارية وصناعية ومالية تُستثمر في إقناع أعداد غفيرة من الجماهير بدخول عقيدة التغير المناخي أفواجاً. وجهنم لمن يكفر بها؛ هي فناء الجنس البشري وممارسة العقيدة، هي ثورة صناعية خضراء يُستبدل فيها بمحرك الاحتراق الداخلي آخر كهربي يدار بطاقة من الشمس والرياح وأمواج البحر. صناعة بلايين البطاريات والمحركات ومولدات الكهرباء وأدوات جديدة.
وكيف تُموّل هذه الصناعات؟
الإجابة في سؤال آخر: لماذا لا يتظاهر «متمردو الفناء» أمام سفارة الصين مثلاً صاحبة أكبر نمو صناعي يلوّث البيئة؟
تمويل المتظاهرين للتفرغ أو استئجار مصور تلفزيوني كالذي تعرض للضرب في المحطة، هو استثمار للمستقبل في حركة الترويع من كارثة التغيير المناخي. عائد الاستثمار «الضريبة الخضراء» والناس يقدمونها قرباناً في معبد البيئة على مذبح قديسة التغيير المناخي التلميذة السويدية غريتا ثنبيرغ.
وهو ما يفسر عدم التظاهر ضد الصين التي يصعب الحصول على ضرائب بيئة منها كما تتحكم حكومتها في صناعة الرأي العام.
نظرية العلاقات العامة (البروباغندا للتسهيل) هي تحديد الأجندة الإخبارية لأجهزة الاتصال وتوصيل المعلومات كشبكات التلفزيون والإذاعة والصحف اعتماداً على ثلاثة أبعاد: الواقع أو الحقيقة، والثاني هو الأجندة الإخبارية المجدولة لشغل الرأي العام، والثالث ما يُعرف بـperception والترجمة الأقرب هي «الإدراك الانطباعي المعتمد على العواطف» وغالباً ما لا يعكس حقيقة الواقع. النموذج كاختيار وسائل إيصال المعلومات، وأخطرها التلفزيون، قضايا تَكرر عرضها إخبارياً فيعطيها الرأي العام الأولوية وتُظهر شخصيات وخبراء بدورهم يقدمون جزءاً من الحقيقة كمثال «لا تقربوا الصلاة...» دون إكمال الآية، كالصحافي المدّعي الذي اصطحبوه إلى مظاهرة تعطيل القطار، وحده سيحتكر مضمون رسالة فيديو نشرة الأخبار في المساء.
الشخصية الرئيسية طفلة برمجت المصالح عقلها البريء لتقنع جيل الغد بالرسالة. أسرة من أثرياء السويد، أبوها الممثل السويدي الشهير سفانتي ثنبيرغ ابن المخرج والنجم أولوف ثنبيرغ. أمها مغنية الأوبرا ميللينا برنمان بلغت قمة الشهرة وأصبحت فتاة الغلاف بأدائها الاستعراضي في مهرجان الأغنية الأوروبية السنوي عام 2009، ومنحها كارل غوستاف ملك السويد لقب «مغنية البلاط الملكي».
في 2017 منحتها مؤسسة «الحياة البرية الدولية» لقب «بطلة البيئة» لدعوتها لحماية البيئة مع دورة جديدة من صور الأغلفة وعروض التلفزيون، وبعد عام بدأت ابنتها غريتا احتجاج جلوس أمام برلمان السويد. وبعد ثلاثة أيام طُرح في السوق كتابها بعنوان «مناظر من أعماق القلب» يقدم غريتا على أنها قوة إلهام في الأسرة، وظهرت صورتها وزوجها والابنة غريتا على أغلفة المجلات.
في اليوم نفسه نشرت صفحة على «فيسبوك» اسمها «ليس أمامنا وقت» صور غريتا والدعوة لإضراب التلاميذ. الصفحة تتبع معهد دراسات بيئة أسسته خبيرة الاقتصاد كريستينا بيرسون، ابنة المستثمر الملياردير السويدي سفين بيرسون.
من السيدات الاعضاء، المرافقة الدائمة لغريتا وراسمة خطوط حركتها لويزا - ماري نيوباور الناشطة في «حملة الواحد» (وان كامبين - One Campaign) المنظمة التي يديرها بيل غيتس، والمغني الشهير بونو وتمولها مؤسسة المجتمع المفتوح «Open Society Foundation» لصاحبها المليونير المثير للجدل جورج سوروس الذي يموّل حملة إبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي.
متابعة الخيوط العنكبوتية المعقدة لحركة «تمرد الفناء» وحملة التغيير المناخي تطرح السؤال الأقدم في دروس المحاماة والتحقيقات القانونية: cui bono كوا بونو... من المستفيد؟