سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

«الميري» الذي فات «النهضة» في تونس!

ما كادت حركة «النهضة» الإسلامية تعلن تأييد المرشح الرئاسي قيس سعيد، في الجولة الثانية من السباق إلى قصر قرطاج، حتى تباينت الآراء وانقسمت حول غرض الحركة من وراء هذه الخطوة. وكان من بين الآراء رأي يرى في الخطوة قفزاً فوق خيار الناخب التونسي!
ولست مع هذا الرأي لأسباب كثيرة، منها أن «النهضة» ترى لنفسها حصة في المجتمع التونسي، بالمعنى السياسي لكلمة حصة، ومنها أنها تريد تعظيم هذه الحصة في جولة الإعادة، إذا كان قد فاتها أن تعظّم منها في الجولة الأولى، ومنها أن اللعبة هنا لعبة سياسية بالأساس، ولا علاقة لها بالدين، ولا بالأخلاق، ولا بمقاصد الدين العليا التي ربما تكون حاضرة في عقل كل مَنْ رأى في تأييدها المرشح سعيد قفزاً فوق خيارات شعب، أو محاولة للسطو على اختيارات ناخب!
ومن الجائز في قواعد اللعبة السياسية، أن تسعى حركة «النهضة» إلى سلوك من هذا النوع، وأن ترمي أصواتها في الكفة التي تبدو رابحة في ظنها!
بل إن هناك مَنْ سوف يرى في قرار تأييد سعيد في جولة الختام، شيئاً يمكن حسابه في رصيد الحركة، أكثر مما يمكن حسابه عليها؛ لأنها كانت قادرة على تأييده سراً، كما حدث من جانبها مع المنصف المرزوقي، عندما أيدته سراً في معركته الرئاسية التي فاز فيها في السابق، وقد كان ذلك من خلال تعميم داخلي على أعضائها، دون إعلان شيء على الناس!
وعندما فاز المنصف وصار رئيساً، فإن ذلك كان راجعاً في جزء كبير منه، إلى أصوات حركة الشيخ راشد الغنوشي، ولولا أصواتها ما فاز الرجل وما دخل قصر الرئاسة!
ولهذا السبب يظل التأييد الممنوح لها علناً إلى سعيد، من قبيل الممارسة السياسية الشفافة، في نظر الذين يميلون إلى حُسن الظن في هذا المقام!
غير أن الغريب حقاً أنها لم تعترف بتأييد المرزوقي وقتها، ولا الآن، ولا في أي وقت، وأنه هو الذي اعترف بذلك في حوار صحافي جرى معه مؤخراً!
ولا بد من أن على الذين يرون في عدم قدرة مرشحها الشيخ عبد الفتاح مورو، على الوصول إلى الجولة الثانية، عقاباً من الناخب التونسي، أن يراجعوا أنفسهم في هذه المسألة، لا لشيء، إلا لأن كل ما حدث أن الناخب وجد أمامه أكثر من مرشح، فاختار أنسبهم في تقديره، دون أن يكون في حسابه أن يكافئ هذا المرشح، أو يعاقب ذاك المرشح. كما أن الحديث عن تصويت عقابي في حق حركة «النهضة»، من شأنه أن يعطيها حجماً سياسياً في مجتمعها أكبر من حجمها الطبيعي!
لقد جاء مرشحها في الترتيب الثالث بعد قيس سعيد، أستاذ القانون، وبعد نبيل القروي قطب الإعلام والأعمال. وحاز مورو نسبة من الأصوات تزيد على عشرة في المائة من كتلة الأصوات كلها بقليل، وهي نسبة تشير إلى أن الحركة ستكون مستطيعة بغيرها، إذا رغبت في حيازة الأغلبية في أي انتخابات مقبلة، وأنها لن تكون مستطيعة بنفسها!
ولا فارق بينها في هذه النقطة الأساسية، وبين الجماعة الحوثية في اليمن، ولا حتى بينها وبين جماعة «الإخوان» الأم في القاهرة. فالنسبة التي حصلت عليها الجماعة «الإخوانية» الأم في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة في عام 2012، هي تقريباً النسبة التي حصل عليها مرشح «النهضة» في هذه الجولة الأولى من سباق الرئاسة في تونس، وهي تقريباً أيضاً النسبة التي ستحصل عليها جماعة الحوثي لو خاضت أي سباق انتخابي رئاسي أو غير رئاسي في اليمن!
ويبقى المعنى أنه ليس لجماعة الحوثي أن تزعم حقها في حكم اليمن، ولا في السيطرة على مقدرات البلاد، وهي إذا كانت تفعل شيئاً من هذا القبيل هذه الأيام، أو تحاوله، فهي تفعله مستطيعة بغيرها الذي هو حكم الملالي في طهران!
ولو أن حكومة المرشد في إيران أنصفت نفسها، وأنصفت الشعب اليمني معها، لأدركت أن لعبتها في الأراضي اليمنية لعبة خاسرة، وأنها لن تكسبها مهما طال بها اللعب هناك؛ لأن الشعب في عمومه يظل أكبر من مجرد جماعة سياسية من جماعاته، ولأنه لن يرضى بحكم جماعة هي مجرد فصيل في ملعبه السياسي، ولأنه شعب صاحب حضارة قادرة على إسعافه وقت الجد في هذا الطريق!
لكن، منذ متى كانت حكومة المرشد التي لا تزال تعيش حالة من المراهقة السياسية، قادرة على إنصاف نفسها في العاصمة الإيرانية، أو على إنصاف غيرها في العاصمة اليمنية؟!
غير أن جماعة «النهضة» لا تزال تثبت أنها قادرة على اللعب السياسي المتوازن إلى حد بعيد، وقد دللت على ذلك عندما أخذت خطوات إلى الوراء في مواجهة الموجة الأولى من الربيع العربي، وعندما انحنت لعاصفته التي هبت قوية على أكثر من بلد عربي، وعندما أخذت العبرة والدرس بعض الشيء من سقوط الجماعة الأم في القاهرة، وعندما راهنت مبكراً على البرلمان في تونس، فرشحت رئيسها الشيخ الغنوشي على مقعد من مقاعده، أملاً في أن يرأس السلطة التشريعية إذا فاز بالمقعد، ثم رشحت نائب رئيسها على مقعد الرئاسة، لتكون حاضرة في المعركة إذا فاتها أن تكون فائزة!
وقد كانت تتصرف على هذا النحو مدفوعة بعقلية عملية تقيس الأمور بنتائجها، وكانت ترشح نائب رئيسها هنا، ورئيسها هناك، وهي تعلم تماماً أن سلطات البرلمان في تونس حسب الدستور القائم، أقوى من سلطات الرئيس، وكلنا يذكر - لا بد - جيداً، أصداء المعركة التي قامت قبل شهور في البلاد حول جانب من هذه المسألة، بين الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، وبين رئيس وزرائه يوسف الشاهد، وقد بلغ غضب السبسي وقتها حداً قال معه إنه ليس «بوسطجياً» في القصر يتلقى الخطابات ويحملها إلى أصحابها!
فـ«النهضة» كانت تعرف ماذا تفعل، وهي تنافس على القصر دون أمل كبير في دخوله، وكان تعرف ماذا تصنع وهي تنافس على البرلمان، مع أمل كبير في أن تكون صاحبة كلمة حاكمة فيه، وكانت تعرف ماذا تعلن وهي تصرح بتأييد قيس سعيد، وكانت في هذه الحالة الثالثة تتحرك وفق مثل مصري شعبي، ينصح المواطن بأن يتمرغ في تراب «الميري»، إذا فاته أن يدرك «الميري» ذاته!