عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

المحامي أم نائب البرلمان؟

في كتابه «روح القوانين» 1748، حذر فيلسوف السياسة والقانون البارون تشارل - لويس مونتيسكيو (1689 - 1755)، أهم مؤسسي مدرسة فصل السلطات في النظم الديمقراطية الدستورية البرلمانية، من «انهيار كل شيء» إذا تشابكت السلطة التشريعية مع السلطتين التنفيذية والقضائية، كمؤسسة واحدة تحكم البلاد.
تطورات النزاع في بريطانيا اليوم بين القانونيين والبرلمانيين تستحق الدراسة في كل أنحاء العالم.
تيار الاستقرار ورؤية المدى الطويل التاريخية يرى ضرورة تنفيذ نتيجة استفتاء «بريكست»، فالشعب سيد كل المؤسسات. تيار مكاسب المدى القصير يريد «تحديث» نظام الحكم التوافقي المستقر لقرون طويلة، ليكون منسجماً مع أنظمة الاتحاد الأوروبي التي ينتمي إليها هذا التيار.
الديمقراطيون البرلمانيون من مدرسة مونتيسكيو يحذرون من سابقة إقحام القضاء في الخلاف السياسي بين البرلمان والحكومة. فالسوابق تصبح قاعدة في الدستور الديناميكي غير المكتوب المكون من تراكم الممارسات والسوابق والإجماع الشعبي بالثقة بفصل السلطات الثلاث والتوازنات. المحاسبة تكون بالانتخابات، وقبول نتائجها، وبالسلطة الرابعة (الصحافة) الحرة المستقلة. الوثائق المدونة قليلة لكنها كعلامات على الطريق كـ«المغنا كارتا» (1215) ووثيقة إعلان الحقوق والحريات العامة للرعية (1689).
مرونة الدستور غير المكتوب، التي تسمح بالتطوير والتعديل واستيعاب المتغيرات، دعمت القوة والاستقرار، ولم يتغير اسم الدولة (المملكة المتحدة) منذ معاهدة التوحيد في 1707.
بالمقارنة، يعرف بعض قرائنا بلدانهم بعشرة دساتير مكتوبة صدرت على مدى 132 عاماً، ولا تزال تشكو من انتهاك القانون وغياب الحريات وتعمل على تغيير الدساتير.
التيار الموالي لبروكسل لجأ للقضاء البريطاني في قضيتين لا سابقة لأيهما لحل خلاف افتعلوه بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، بينما يحذر المونتيسكيون من أن الحكم سيكون سابقة لا تقيد أيدي الحكومات المنتخبة ديمقراطياً فحسب، بل تخل بالتوازن المثلث بين السلطات المستقلة دستورياً.
أحد شيوخ القضاء الإنجليزي اللورد جوناثان سمبتشن (صاحب دراسات «قصور القانون وحدوده»)، من مدرسة مونتيسكيو، حذر من تنامي ظاهرة عبور السلطة القضائية لحدود فصل السلطات في الديمقراطيات الغربية، وتدخلها في النزاعات البرلمانية. كما شكك في مقولة القانونيين بأن تدخلهم في العملية السياسية سيدعم الديمقراطية في بلد دستوره مرن متغير. بجانب أن وزراء السلطة التنفيذية، هم أيضاً نواب برلمان، وبالتالي مشرعون، وأيضاً يصوتون ضمن مؤسسة ضبط ومراقبة السلطة الأولى وموازنتها.
وبالطبع يعارضه السلك القانوني من قضاة ومحامين، فمن الذي سيقبل بنظام يقلل من زبائنه بدلاً من زيادة عددهم؟
وكما ذكرنا في الأسبوع الماضي، مجلس العموم، بزعامة رئيسه جون بيركو الذي خرق اللوائح وكسر التقاليد في صدام مع الجهاز التنفيذي، وهو الحكومة ووزراؤها النواب بشأن «بريكست». 62 في المائة من البريطانيين يرون البرلمان غير ممثل للشعب، و90 في المائة يرون النواب معطلين لـ«بريكست».
ثلثا الدوائر (410 من أصل 650) صوتت بالخروج، مقابل 240 (238 للبقاء واثنتان بنسبة متساوية)، لكن 70 في المائة من مجموع النواب مع البقاء في الاتحاد الأوروبي. ورغم تصويتهم بالأغلبية بإجراء استفتاء 2016 فهم لا يريدون الالتزام بنتيجته. ورغم تصويتهم بتفعيل المادة 50 من المعاهدة الأوروبية بالخروج، وتصويتهم بتحديد يوم الخروج بنهاية الشهر المقبل، فقد تراجعوا عن الالتزام، ويوظفون أي أداة أو حيلة برلمانية لعرقلة «بريكست».
البقائيون التجأوا للقضاء في قضيتين تاريخيتين يتهمون فيهما رئيس الوزراء بوريس جونسون، بـ«سوء النية»؛ أي توجيه «النصيحة الخاطئة بنية غير طيبة للملكة لتأجيل أعمال البرلمان».
تأجيل الأعمال يتم بين دورتين برلمانيتين لعرض مشروع الحكومة للدورة الجديدة التي تبدأ يوم 14 من الشهر المقبل. لكن البرلمان في إجازة المؤتمرات الحزبية ما بين العاشر من هذا الشهر، والثامن من الشهر المقبل، ولذا اتهم البقائيون، حكومة جونسون، بتعمد اختيار موعد الدورة لحرمان النواب من أربعة أيام إضافية لمناقشة تطورات مفاوضات الحكومة للخروج مع بروكسل.
القضية الأولى رفعها نواب «الحزب القومي الأسكوتلندي» في محكمة في أدنبرة، فرفضتها لعدم الاختصاص لأنها سياسية لا قانونية، لكنهم استأنفوا الحكم في المحكمة العليا (high court) الأسكوتلندية، فحكمت لصالحهم.
القضية الثانية رفعتها مجموعة مدعومة من المؤسسات المالية العالمية، ورئيس الوزراء الأسبق اللورد جون ميجر، وعدد من النواب؛ قضية شكوى المراجعة القضائية «judicial review»، وهي قضايا تقفز فوق المحكمة الابتدائية لتنظر مباشرة في المحكمة العليا الإنجليزية. والقضاء حتى مستوى المحكمة العليا مستقل في أسكوتلندا عن القضاء في إنجلترا وإمارة ويلز. المحكمة العليا الإنجليزية رفضت المراجعة القضائية شكلاً لعدم الاختصاص.
الحكومة قررت نقض قرار المحكمة العليا الأسكوتلندية، والموالون لبروكسل في مجموعة جون ميجر بدورهم قرروا استئناف قرار المحكمة العليا الإنجليزية.
أعلى سلطة قضائية على مستوى المملكة المتحدة هي المحكمة الأعلى أو السامية «supreme court» على مستوى المملكة المتحدة كلها تنظر النقض في قضيتين متضادتين. تلخيص مضمون القضيتين ما إذا كان رئيس الحكومة جونسون تعمد، بسوء نية، توجيه استشارة مضللة للقصر. وفي حالة الحكم ضد الحكومة، قد يستدعى البرلمان للانعقاد مسبباً اضطراباً غير مسبوق لخطة الحكومة. ما حذر منها مونتيسكيو قد يتحقق بسابقة تجعل من القضاء المرجع الحاسم لتنظيم العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية؛ وعندئذ يسارع القانونيون بـ«تحديث» الدستور الديناميكي التقليدي إلى دستور مكتوب يحتكر المحامون تفسيره.
وهنا يفقد أقدم شعب مارس الديمقراطية ما اكتسبه بـ«الماغنا كارتا»، وتتحول إدارة العملية الديمقراطية إلى أيدي المحامين. ومن يمتلك القدرة المادية - أي نخبة الأغنياء لا الشعب - يمكنه توظيف القانونيين لاستخدام القضاء لمنع ممثلي الشعب من تنفيذ إرادته.
والمثال من قانون تثبيت الفترة البرلمانية الذي استغله النواب الممانعون لـ«بريكست» للحيلولة دون إجراء الانتخابات، وهو دافعهم للجوئهم إلى القضاء لعرقلة دورة برلمانية جديدة.
في كتابه الجديد «للسجل» عن فترة رئاسته للحكومة (2010 - 2016)، يقول رئيس الوزراء الأسبق ديفيد كاميرون، «في كل مناسبة لنقل الصلاحيات إلى بروكسل، وجد المحامون المبررات القانونية لنزعها من سلطة الحكومة المنتخبة ديمقراطياً؛ ولكن عندما طالبت باستعادة هذه الصلاحيات إلى لندن، وجد المحامون أنفسهم الأسباب لمنعنا».
ومن يرضى أن يصبح المحامي، الذي أثبتت - والأمثلة لا حصر لها - قدرته على تفسير القانون للمحكمة ليتحول اللص المعتدي على أهل الدار إلى ضحية يتلقى منهم التعويض، هو الذي يقرر مصير المواطن وليس نائبه الذي يستطيع تغييره في الانتخابات؟