إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

معطف غريتا غاربو

ليس هذا معطف الكاتب الروسي غوغول الذي قال عنه ديستويفسكي «كلنا خرجنا منه». بل معطف الممثلة السويدية المولد، غريتا غاربو، المرأة الغامضة التي اعتادت أن ترتدي السواد لكنها احتفظت بمعطف واحد أحمر في خزانتها. لقد نامت، قبل ربع قرن، عن شوارد الدنيا وتركت النقاد والكتّاب والمعجبين يسهرون على أفلامها ولا يختصمون.
كتب غوغول قصته «المعطف» عن مواطن فقير اهترأ معطفه القديم وسعى بشق النفس لكي يكون له معطف جديد. ويوم ارتداه وسار متبختراً متدفئا به، هجم عليه لص انتزعه منه وتركه عارياً على ثلوج الرصيف. أما غاربو، فقد كانت تملك مئات الفساتين والتنورات والمعاطف الثمينة، تستخدمها في أفلامها ولا تقربها في حياتها العادية. إنها تكتفي بسترة وسروال رجاليين تتنكر بهما لكي تفلت من مطاردة المصورين.
وها هي الكاتبة نيلي كابرييليان تلقي بحصاة صغيرة في بحيرة الموسم الروائي الفرنسي الجديد وتنشر رواية بعنوان «معطف غريتا غاربو»، صدرت عن دار «غراسيه» في باريس. هل تعكزت المؤلفة على اسم الممثلة لتلفت أنظار قراء يهدهدهم الحنين إلى رومانسيات هوليوود في الزمن الماضي؟ قد تكون الفكرة راودتها وهي بصدد اختيار العنوان. لكن أي اسم آخر ما كان يليق بهذه الرواية. إنها تقوم على غواية تلبّستها منذ اليوم الذي ارتدت فيه معطف النجمة الساحرة التي ما زال اسمها يرن في الأسماع.
رحلت غاربو في نيويورك، عام 1990، عن 84 عاما ولم تترك ولدا. وقبل سنتين، باع أبناء شقيقتها الثياب العائدة لها في مزاد علني جرى في لوس أنجليس. وكان على نيلي كابرييليان، التي تعمل ناقدة في إحدى الإذاعات، أن تحضر المزاد في مهمة تتعلق بمهنتها. لقد جلست تتابع ما يجري حولها بشيء من الأسى، وخيل لها أن النجمة الراحلة تموت ثانية، في تلك اللحظات، وتتبعثر مع فساتينها التي تذهب مع الرياح الأربع. ورغم أن الكاتبة لم تكن تنوي المشاركة في «حفلة القتل»، لكن شيئا ما، لعله الحدس لا التهور، قادها لأن ترفع يدها للمزايدة على معطف أحمر من المجموعة المعروضة للبيع.
عادت إلى فندقها ووضعت المعطف على كتفيها وتطلعت إلى نفسها في المرآة الكبيرة ورأت صور حياتها تمر أمامها، منذ مذبحة أجدادها الأرمن وحتى وجودها وحيدة في غرفة بمدينة غريبة وهي ترتدي معطفا ذا لون دموي منسوج من الصوف المفتول. لقد غفت، تلك الليلة، محتضنة معطف غاربو وكأن هناك ولهاً يبدأ بينها وبينه، هي الخارجة من غرام جارف لم يندمل جرحه. وبعد ذلك، حين جلست إلى طاولة الكتابة، راحت صفحات الرواية تتشكل تحت نقرات أصابعها، تارة على لسان الممثلة وتارة على لسانها، وكأنها تجمع في 288 صفحة خرقاً مبعثرة وترسم صوراً استعصت على التنضيد.
ظهرت غاربو على الشاشة في زمن السينما الصامتة. لم تكن اللغة حاجزاً أمامها عند انتقالها من السويد للعمل في هوليوود. وحتى عندما «نطقت» الأفلام فإنها كانت من الممثلات القلائل اللواتي صمدن في قلوب المعجبين، وأحب الناس لكنتها ونبرتها العميقة والحسية. وهي قد تركت وراءها أدواراً خالدة في «أنا كارنينا» و«ماتا هاري» و«الملكة كريستين»، لكنها لم تحتمل الفشل النسبي لآخر أفلامها «المرأة ذات الوجهين»، وقررت الاعتزال وهي في نحو الأربعين. اختفت من المشهد وأحاطت حياتها بسياج عال وقالت للمتطفلين: «أريد أن أكون وحيدة». ولما اعترض جمهورها على تلك العبارة، ردت معتذرة بأنها، في الحقيقة، تتمنى أن يتركوها وشأنها.
ولأن الحكاية تجر الحكاية، فها هي أمامي مجموعة للشاعرة السورية رشا عمران، بعنوان «معطف أحمر»، تقول في أحد مقاطعها: «في الأربعين.. تكحّل المرأة عينيها بأقلام الخسارة.. وترتدي أكثر أثوابها شبهاً بالحنين». من يأتي بمعطف غاربو، من نيلي، لتتدثر به رشا؟
آخر الحكايات قرأتها مكتوبة بقلم الشاعر العراقي فاروق سلوم. وبما أن العراقي الجيد هو المهاجر الجيد، حسب شعار هذه المرحلة، فإن أقدار سلوم طوّحت به إلى قرية سويدية على مشارف غابة. وفي آخر تلك الغابة، يقوم مبنى لرعاية المسنين، وخلفه منزل أخضر عتيق.
هطل مطر شديد، ذات يوم، بينما كان يتنزه في الغابة، وهرع ليحتمي بالبيت الأخضر. ولم يصدق عينيه وهو يقرأ على لوحة خشبية، عند المدخل: «جناح غريتا غاربو في الغرفتين 201 و202». هل يعقل أن يقع حافر الشاعر العراقي على حافر الممثلة السويدية التي كان يعلق صورها في غرفته ببغداد، وهو مراهق؟ دخل غرفتها واقترب من سريرها ومن مرآتها المؤطرة بخشب الزان. تسلل إلى حمامها الصغير ولمس المشجب العاري من ثيابها. هنا، في بيت عمتها إيفا، كانت غاربو تختبئ لفترات من الزمن، كما تقول الوثائق الموجودة في المنزل، حيث ما زالت نوتات موسيقية لشوبان وفيردي على حاملة البيانو الصغير في غرفة الجلوس. من يأتي بالمعطف الأحمر ليضعه على مشجب البيت الأخضر الصغير؟