سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

ستة أيام في الدمام

سوف تبقى الرياضة جزءاً من السياسة، وإلا ما كانت الحرب قد قامت في يوليو (تموز) 1969 بين هندوراس وبين السلفادور على مدى أسبوعين، بسبب مباراة بينهما في تصفيات التأهل لكأس العالم! وما كانت مباراة في تنس الطاولة، الشهيرة بـ«البينغ بونغ»، قد أدت إلى أن يزور الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون الصين في أبريل (نيسان) 1971، فيكون أول رئيس أميركي يزورها، وتعود العلاقات بين البلدين بعد أن تجمَّدت 22 عاماً كاملة!
وقد عاش الدكتور حسن مصطفى، رئيس الاتحاد الدولي لكرة اليد، يؤمن بأن الكرة سياسة بمعنى من المعاني، وكان من حظه أن يرى ذلك عن قرب، وقت أن كان يدرس الدكتوراه في ألمانيا الشرقية!
فهناك كان يتابع كيف أن الألمان الشرقيين ظلوا يبحثون عن مجال يسابقون فيه ألمان الغرب، وكيف فكروا في أن الرياضة عموماً، يجوز أن تكون مجالاً للمنافسة وحصد الأوسمة والنياشين، وميداناً بالتالي للتفوق على الذين كانوا يعيشون في غرب البلاد، ثم كيف هداهم تفكيرهم في مرحلة لاحقة إلى أن تشجيع الألعاب الفردية بالذات، ربما يسعفهم في هذا السبيل. فالسباحة مثلاً لعبة فردية، والقدرة على حيازة البطولات فيها متاحة بأكثر مما هي متاحة في غيرها من الألعاب الجماعية، ولذلك، لم يكن غريباً أن تكون كرة اليد هي اللعبة الجماعية الوحيدة التي شاعت في ألمانيا الشرقية، قبل أن تصبح الألمانيتان بلداً واحداً بانهيار سور برلين في عام 1989!
وعندما رأيت الرجل مؤخراً في بطولة العالم لأندية كرة اليد «سوبر غلوب» التي استضافتها السعودية، على استاد مدينة الدمام، كنت أسعى إلى التعرف على وجهة نظره في قضية أخرى، هي هذه الشعبية الجارفة التي تستحوذ عليها كرة القدم، دون سواها من عشرات اللعبات التي ربما تكون أشد إثارة للمتفرج من الساحرة المستديرة!
وكان رأيه الذي سمعته منه، أن الإعلام سبب مهم في هذه المفارقة، وقد نغامر ونقول إنه سبب أهم، فإعلام العالم يضع أخبار ميسي، مثلاً، في صدر صفحاته الأولى، وفوق شاشاته المفتوحة على أنحاء الدنيا. ولو أن نجوم كرة اليد، أو التنس، أو السلة، أو المصارعة، أو الإسكواش، أو غيرها، وجدوا مكاناً مساوياً تحت أضواء الكاميرات، فسوف يتغير الحال أمامنا ويتبدل قطعاً، وسوف تهدأ أعصاب العالم بالتأكيد!
ولماذا نذهب بعيداً؟! فطوال الثلاثين عاماً السابقة على ما يُسمى «الربيع العربي»، كان الرئيس الأسبق حسني مبارك يحب رياضة الإسكواش ويمارسها بانتظام، ولم يكن أمام الإعلام في البلد إلا أن يهتم بها، وإلا أن يضع أخبارها في برواز على صدر الشاشات والصفحات، ولكن رحيل الرجل عن الكرسي فيما بعد 25 يناير (كانون الثاني) 2011، دفع بالأخبار ذاتها إلى مساحات ضيقة لا تكاد العين المجردة تراها، حتى ولو كانت الأخبار أخبار بطولات مُستحقة، وأوسمة تلمع ونياشين!
إننا نعرف أن أديب الأرجنتين الأشهر لويس بورخيس، كان يرى في انتشار كرة القدم بالذات في العالم، انتشاراً للغباء في كل مكان، وكان يجاهر في كل مناسبة بأنه لا يرى أي معنى لأن يظل 11 لاعباً يطاردون الكرة بأرجلهم في كل اتجاه على أرض الملعب، بينما الجماهير المتوترة تقوم وتقعد، مع كل مرة تتسلل فيها تلك الساحرة إلى المرمى!
كان هذا هو رأي بورخيس الذي لم يكن يخجل من ترديده، والذي لم يكن يجد حرجاً في أن يكون هذا التقدير من جانبه، صادماً للملايين الذين يفضلون اللعبة الأشهر في العالم، ويتابعونها في كل ملعب، ويزحفون وراءها في كل عاصمة، وقد يندفعون ويتقاتلون بسببها إذا قضت الضرورة!
وفي وقت من الأوقات، كان توفيق الحكيم يرى ما رآه أديب الأرجنتين، ولكن بشكل مغاير، فلقد عاش الحكيم سنواته الأخيرة يراقب الملايين التي تتدفق في جيوب نجوم كرة القدم، وكان يتحسس جنيهاته القليلة في جيبه، ثم يقول: «انتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم!».
ولم يكن حديث بورخيس يختلف عن حديث الحكيم، فالموضوع واحد، والمضمون واحد تقريباً، والغيرة على العقل الذي يجب أن يستقر في رؤوس الناس غير واحدة، والرغبة من كليهما في أن تكون الغلبة في أنحاء الأرض للقلم، لا للقدم، قاسم مشترك أعظم!
وعندما استضافت المملكة كأس «السوبر غلوب» في أقصى المنطقة الشرقية، كانت تريد أن تقول إنها قادرة على استضافة بطولة دولية، يشترك فيها عشرة أندية من قارات الدنيا الست، وكانت تدفع بناديين من أنديتها في المنافسة، هما نادي مُضر ونادي الوحدة. وكانت تريد أن تقول إن كرة القدم إذا كانت موجودة، وقوية، وذات شعبية في الرياض، ففي مدن الشرق مكان لكرة اليد، وفي الخُبر، والدمام، والقطيف، والأحساء، والجبيل، جمهور لهذه الكرة، ومعجبون، ومتابعون.
وعندما جرى اختتام البطولة بنجاح بين برشلونة الإسباني وبين كيل الألماني، قال الأستاذ محمد المنيع، رئيس اتحاد كرة اليد السعودي، إن رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، للبطولة، جعلتها البطولة الأميز في تاريخ كرة اليد السعودية!
وعندما تستضيف القاهرة كأس العالم لكرة اليد على مستوى المنتخبات في العام بعد القادم، فربما تكون هذه فرصة أخرى يدرك الجمهور في المنطقة من خلالها، أن الدنيا في عالم الرياضة أوسع من كرة القدم، وأن الجماهير التي تمضي إلى كل مباراة كرة قدم معصوبة الأعين، تستطيع أن تجد متعتها في أكثر من لعبة أخرى. وقد يتبين للجماهير نفسها في لحظة انكشاف، أن تلك الساحرة ليست اسماً على مسمى إلى هذا الحد، وأن الباحث عن متعته خارج إطار سطوتها على عقله، ربما يجد بدلاً من اللعبة الواحدة لعبتين!
ولا تزال العلاقة بين كرة القدم وبين باقي اللعبات، كالعلاقة بين العواصم وبين باقي مدن الدولة في عالمنا العربي، ففي العاصمة كل أسباب الحياة التي لا تتيسر خارجها، إلا في أقل القليل، وفي العاصمة تتركز الكاميرات، وإليها تتوجه الأضواء، وحولها يستيقظ الاهتمام الرسمي وينام!
ومن العلامات ذات المعنى في هذا الموضوع، أن تحمل العاصمة لدى أبناء الأقاليم اسم الدولة نفسه، فالمواطن الأسواني القادم إلى القاهرة من أقصى الجنوب، يقول إنه ذاهب إلى مصر لا إلى القاهرة، وكذلك كل مسافر إليها من محافظات الشمال، ولا يختلف الحال في سوريا؛ لأن القادم من حلب في الشمال إلى العاصمة، يقول إنه ذاهب إلى الشام، لا إلى دمشق!
فكأن العاصمة في بعض عالمنا العربي، هي عصا موسى - عليه السلام - التي تبتلع كل ما عداها، ولا تدع له فرصة الحياة. وكذلك الحال بين كرة القدم وبين باقي الرياضات!
ولكن أياماً في الدمام سوف تكشف لك أن العكس هناك صحيح، وأن كثيرين ممن يقيمون هناك قد جربوا العيش في الرياض أعواماً، ففضلوا مدن المنطقة الشرقية عليها وسارعوا إليها، فالحياة في المدن المتناثرة على وجه المنطقة أكثر إغراءً منها في العاصمة، والطقس فيها ألطف، فيما عدا شهور معدودة على أقل من أصابع اليد الواحدة، ولا شيء هناك يطرد المقيم في اتجاه الرياض!
التقى شباب من ست قارات في الدمام التي تطل على الخليج، فاكتشف في المملكة، ما لم تكشف عنه بطولة مماثلة من قبل!