حسام عيتاني
كاتب وصحافي لبناني لديه عدد من المؤلفات؛ منها: «الفتوحات العربية في روايات المغلوبين»، إضافة إلى ترجمات ومساهمات في دوريات عربية مختلفة. انضم إلى كتّاب «الشرق الأوسط» في عام 2018.
TT

الهزيمة... بكامل مشمشها

لنتخيل أن ردّ «حزب الله» يوم الأحد في الأول من سبتمبر (أيلول) على مقتل عنصريه في سوريا وعلى تفجير طائرتين مسيّرتين فوق الضاحية الجنوبية لبيروت، قد أدى إلى حرب واسعة بينه وبين إسرائيل التي سقط لها في الرد عدد من القتلى والجرحى. وأن حكومة بنيامين نتنياهو قررت تنفيذ تهديدها «بإعادة لبنان إلى العصر الحجري».
لم يأتِ الذعر الذي عاشه لبنان في الأسبوع السابق على عملية «حزب الله» قرب مستوطنة أفيفيم، من فراغ. ليس لأن الذاكرة اللبنانية لم تبرأ بعد من رضّات الحروب والاعتداءات الإسرائيلية السابقة والمجازر الوحشية التي ارتكبها المعتدون بحق المدنيين فحسب، بل لأن الوضع الداخلي يتناقض مع التصريحات البطولية التي أدلى بها المسؤولون الرسميون والحزبيون، ويجعل من أي حرب مقبلة قبلة الموت للكيان اللبناني المتهالك والمتصدع.
دعونا نُنحِ جانباً مهاترات «الإعلاميين» الذين انتشروا قرب السياج الحدودي وارتدى أخفّهم عقلاً ثياباً عسكرية علامة على الاستنفار والجهوزية القتالية. فهؤلاء سيكونون أول من يصرخ أمام الكاميرات طالباً وقف قتل المدنيين اللبنانيين بواسطة الطائرات والمدافع الإسرائيلية. ولنتجاوز قليلاً تحليلات عسكريين متقاعدين لم يسبق للكثير منهم أن أطلق رصاصة في معركة حقيقية، تبشّر بانتصار المقاومة والحزب، وتهليل رجال ونساء لحرب سيكونون أول من يفّر من نيرانها. ولننس للحظة أن العدو «الغاشم» يقيم وزنا للردع الذي بناه «حزب الله» بواسطة مئات الآلاف من الصواريخ الذكية والصحافيين الأذكى ورجال أمن يفوق ذكاؤهم كل ما شهدته آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. ذاك أن الحروب السابقة علمتنا أن الهزائم «التي ولى زمنها» إنما تقيم بين ظهرانينا وليس على الحدود. هي تظهر في العجز عن صوغ إجماع وطني لبناني على أصغر القضايا وأخطرها، من معالجة أزمة النفايات الدائمة إلى الاتفاق على مخرج من أزمة اقتصادية متفاقمة ومتصاعدة ناهيك عن وضع تصور لموقع لبنان ودوره وعلاقاته العربية والدولية التي جعل هذا العهد منها مهزلة يتسلى بها في ساعات فراغه، على ما يظهر من الأزمة الأخيرة مع تركيا وسابقتها مع الكثير من الدول العربية.
يتساوى هنا «النصر الإلهي» مع «النكسة»، التسمية العربية الشهيرة للهزيمة، فالنتيجة ستكون واحدة في إصابة النسيج الاجتماعي اللبناني بالمزيد من التمزق وبخسارة آلاف الأرواح ومليارات الدولارات وتدمير البنى التحتية التي لن تجد هذه المرة أموالاً خليجية لإعادة بنائها. وسيتعمق الانقسام السياسي بين اللبنانيين الذين يكرر «حزب الله» أنهم لم يكونوا يوماً متفقين على مقاومة الاحتلال حتى عندما كان هذا يوجد على الأراضي اللبنانية، من دون أن يلاحظ الفارق الكبير بين غياب الاتفاق حول المقاومة أثناء حرب أهلية وبين غيابه أثناء ما يفترض أنه سلم أهلي يعمل المواطنون فيه على بناء دولة مؤسسات ومجتمع هما موضع نزاع وخلاف جذريين من دون حرب خارجية، تستحق هذه التسميات. وما من داع للتذكير أن «انتصار 2006» اصطحب معه اضطراباً سياسياً وأمنياً وانفلاتاً للسلاح والمسلحين وتعفناً في بنى الدولة وتكريساً للغة والممارسة المذهبيتين لم يعرفه لبنان في ذروة التناحر الأهلي، ما زالت تتفاعل حتى اليوم.
وقليل الأهمية في هذا السياق أن تعترف إسرائيل بهزيمتها التي أشار إليها تقرير فينوغراد أو لا تعترف. فالهزيمة في إسرائيل ببناها السياسية والاقتصادية وبالدعم غير المحدود الذي تحظى به من العالم، تختلف أشد الاختلاف عن الانتصار في بلد منقسم ومنبوذ تتآكله الكراهية ويحكمه قصيرو بصر وبصيرة مثل لبنان.
وربما يكون زمن الهزائم قد ولى، على ما تقول خطابة «حزب الله» إلا أن الهزيمة - مع أل التعريف - ما زالت حاضرة في كل مظاهر السياسة والثقافة والاجتماع اللبنانية واستطراداً العربية. هزيمة ولى زمنها بحق. لكن آليات إنتاجها وإعادة إنتاجها ما زالت هي هي. هزيمة تقيم معنا منذ عشرات السنين «بكامل مشمشها» على ما قال الشاعر عن سيدة تترك الأربعين.
لا ريب في أن «جمهور المقاومة» كان يحبذ حرباً يوجه فيها فريقه صفعات عسكرية لإسرائيل يزيدها إلى رصيده من الانتصارات. ولا ريب في أنه يضع انعدام الرغبة الإسرائيلية في خوض حرب كبيرة ضمن معطيات الردع الذي يفتخر به هذا الجمهور. بيد أن المسألة لا تنتهي في مقارنة حسابية بين ما ربحه وما خسره كل طرف في المواجهة الأخيرة. فإذا كانت إسرائيل عدوا حقيقيا ودائما - وهي كذلك بالنسبة على الأقل لمن يعنيه الشعب الفلسطيني وقضيته وليس أعداد الصواريخ فقط - ينبغي النظر إلى الخريطة الكبيرة. الخريطة التي تُظهر الوجهة التي تسير فيها إسرائيل على كافة الصعد والمجالات وتلك التي يبدو فيها مصير لبنان واتجاهه ومستقبله. دون هذا النظر سنبقى منتظرين انتصارات هي أقرب إلى الكوارث.