خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

جماعات الخمسينات الذهبية

كانت الخمسينات وأوائل الستينات تشكّل العصر الذهبي للفكر العراقي المعاصر. ففيها جرت الأعمال الكبرى في عالم الفن والأدب. فيها أقام جواد سليم نصب الحرية القائم الآن في ساحة التحرير. ورسم فايق حسن لوحاته الشهيرة. وأحدث بدر شاكر السياب ونازك الملائكة تلك الثورة في الشعر العربي، ثورة الشعر الحديث.
وبين أولئك الرواد ظهرت جماعات عديدة، كجماعة بغداد وجماعة السي بي، وتلاحم آخرون في صداقات وزمالات فنية وأدبية احتلت شتى الزوايا من مقاهي وبارات بغداد، كالمقهى البرازيلي ومقهى السويس وقهوة حسن عجمي. كانت هناك جماعة الشلة التي انتظمت بعدد من أدباء اليهود، وعلى رأسهم نسيم رجوان وساسون صوميخ وآخرون من غير اليهود كبلند الحيدري ونجيب المانع.
كانت هناك جماعة المرفأ التي تفرعت من اتحاد الأدباء العراقيين عام 1960 وجماعة الزبانية التي احتضنت الشاعرين سعدي يوسف وزاهد محمد زهدي والقصاص يحيى عبد المجيد الذي كان يكتب وينشر بالاسم المستعار «جيهان» والكاتب الصحافي رشدي العامل.
في عام 1965 بادر المناضل الكردي صالح يوسف إلى إصدار جريدة «التآخي» التي أصبحت جزءاً من تاريخ الصحافة العراقية والنضال القومي للكرد. أسهم فيها الأديب رشدي العامل بزاوية سمّاها «نصف عمود». ولقيت إقبالاً شعبياً كبيراً بين الأدباتية اليساريين.
ولكنه كان يكتبها وينشرها غفلاً من التوقيع الصريح. فتحير الأدباء في هوية الكاتب، ومَن عسى يا ترى يكون؟ كان من متابعيها صديقي المرحوم زاهد محمد زهدي، الشاعر العربي الفويلي. لمس زاهد أنفاس صديقه رشدي العامل في نصف العمود هذا، فبعث إليه بقصيدة، تركها هي الأخرى غفلاً من التوقيع.
فلما وصلت إلى الإدارة حاروا في شأنها ولمسوا فيها طرافة أدبية لذيذة ونكهة إخوانية. عجز رئيس التحرير عن معرفة الشاعر الذي نظمها فمرّرها إلى الآخرين عسى أن يكون هو المعنيّ بها. تنقلت من يد إلى يد حتى وصلت إلى طاولة رشدي. راح يتمتم بشفتيه وهو يقرأ مع نفسه:

يا وغد عدت لنا، وعودك يا خفيف الظل حلو
ولقد حسبتك لا تملّ اللهو حين يملّ لهو
فإذا يراعك في ضباب الشرب أشرعة وصحو
وإذا بصوتك إذ يطول بنا الطريق الجهم حدو
فلأنت بين خيولنا المكدودة الشمطاء فلو
خبباً يسير، وتارة عَدواً إذا ما جد عدو
ولأنت إنْ حمي الوطيس لعنتر العبسي صنو
لك في جيوب الليل صولات وفي العتمات خَطو
ما زال في بار السويس لهنّ حتى اليوم شجو
سكِرَ السقاة فعمّدوك بشربةٍ فانساب شدو

ما إن وصل رشدي العامل إلى هذين البيتين الأخيرين حتى هتف وصاح «هذا آني! أنا المقصود!». تذكر الواقعة التي كان فيها مع زاهد وزمرة الزبانية في جلسة إخوانية في بار السويس حين داعبوا الكاتب بصب الشراب على رأسه. «هذا آني»!