د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

المجد عند خط النهاية

يُروى أن عميد النحو سيبويه قال لعلي الجهضمي، قرين الخليل بن أحمد: «تعال نتعاون على إحياء علم الخليل» بن أحمد (يقصد أول من وضع علم النحو) فتقاعس علي، وخذل سيبويه، فعزم سيبويه على الانفراد بإحياء علم الخليل. وقد نجح سيبويه فلم «يبلغ مبلغه في الجودة والبيان عن معاني النحو نحوي واحد ممن جاء بعده»، حسبما جاء في الكتاب الجميل «رسالة في الطريق إلى ثقافتنا» للأديب المصري الكبير محمود محمد شاكر.
إذن سيبويه، أذهل العرب وأثبت لنا جميعاً أن الأصل ليس له علاقة بالإبداع. وأنك يمكن أن تصل إلى خط النهاية في سباق التألق منفرداً. وقد قال إمام النثر الجاحظ عن ذلك الكتاب: «لم يكتب الناس في النحو كتاباً مثله».
والتاريخ والواقع يزخران بأمثلة لا تعد ولا تحصى لأشخاص برعوا في كل مجال، لأنهم لم يعيروا سمعهم للمثبطين من حولهم. ولم يتعثروا بهمم المترددين المتذبذبة. ولو فعلوا، لما صار لدينا، نيل آرمسترونغ أول إنسان تطأ قدمه سطح القمر، ولما كان لدينا أفضل طيار، وقناص، وكاتب، وروائي، وشاعر، وفنان، ومعلم، وغيرهم.
مشكلة التاريخ أن صفحاته لا تتسع سوى لمن بلغ خط النهاية بنجاح، ولا يخلد المترددين ولا أنصاف الموهوبين. تماماً مثل سباقات التتابع أو سباقات الخيول. إذ شاهدنا، قبل أيام، المتسابقين في «رويال أسكوت» العالمي، لكن عدسات الإعلام البريطاني والجمهور ركزت على خيل الشيخ محمد بن راشد الذي نال المركز الأول، حيث تسلم الجائزة من ملكة بريطانيا.
تابعنا عشرات المرشحين في سباق الرئاسة الأميركية، لكن ذاكرتنا لم تخزن سوى 45 رئيساً أميركياً بلغوا خط النهاية، وكذلك الحال لمرشحي البرلمانات العربية والبلديات والنقابات.
حتى في عالم البزنس، كم من علامة تجارية خرجت مبكراً من سباق التنافس الضاري، لأنها لم تتمكن من الوصول إلى خط النهاية. وكما قيل: الوصول إلى القمة سهل، لكن المحافظة عليها هو الصعب بعينه.
ولذلك كان من أبجديات التمرين الرياضي لرفع اللياقة البدنية أن يُطلب من المشاركين بذل قصارى جهدهم في اللحظات الأخيرة، ففي هذه اللحظات تتولد ذروة اللياقة البدنية، ويصمد بسببها المتنافس في ميدان السباق.
يقول المثل الشعبي في الخليج «من صادها عشى عياله»، أي من ظفر بالغنيمة أولاً تمكن من توفير طعام العشاء لأطفاله. ولذا كان من حق الأفضل أن يدخل التاريخ من أوسع أبوابه، أما من كان يتمنى على الله الأماني فقد طواه النسيان.
باختصار لا بد أن نبادر، ونقتنص الفرصة، ونحسن المشورة، وندرس المخاطر بتأنٍ، والأهم أن نستعد للسيناريو الأسوأ حتى نتقدم كأفراد ومؤسسات ودول في مضمار التنافس. وأن نتخلص من عقدة التزاحم أو التسابق في ميدان واحد. فإذا ما نجحت دولة مجاورة في مجال، لماذا لا نبرز نحن في مجال آخر حتى نكمل بعضنا بعضاً.
وبلوغ المجد أو خط النهاية لا يعني تحطيم المنافسين، ولا يقصد به ارتكاب أعمال مجافية لمهنية التنافس الشريف؛ حتى لا نصل إلى المجد ونخسر قيمنا. فكما قال رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرتشل «كثيرون ارتقوا سلم المجد، إما على أكتاف أصدقائهم أو على جماجم أعدائهم»!